د. طلال عتريسي
ربما أمكن القول إن معظم الحضارات منذ فجر التاريخ إلى
اليوم عرفت أنظمة وقوانين وقيماً كانت تتناسب من جهة مع ما بلغته من تقدُّمٍ وعمران،
وتنسجم من جهةٍ ثانيةٍ مع نظرتها الفلسفية إلى الكون وإلى الحياة، بحيث يصعب أن
نفصل هذه النظرة الفلسفية أو الاعتقادية الثابتة عن القيم والقوانين التي لجأت
إليها هذه المجتمعات في تنظيم أمورها العامة والإدارية أو في تنظيم أمورها
الاجتماعية والفردية والأسرية.
* تحت مسمّى الرجعيّة
كانت النظرة إلى الجسد واحدةً من القيم التي تعاملت معها المجتمعات بطرق مختلفة
بحسب تلك القيم الدينية أو غير الدينية التي اعتنقتها واتخذتها حاكماً أو مرجعاً
على المجتمع. ويمكن أن نلاحظ على سبيل المثال أن فكرة التّحرُّر التي نتجت عن سقوط
الكنيسة في التاريخ الأوروبي لم تقتصر على مجرد الدعوة إلى حرية الفكر، بل تلازمت
معها الدعوة إلى حرية الفرد وإلى حرية الجسد. ولذا بدأنا نشهد في تلك الفترة بداية
تحرُّر الفنون من القيود الدينية والأخلاقية التي كانت مفروضة عليها وكانت تلتزم
بها في المرحلة الدينية الكنسية. ومع تلك المرحلة أيضاً بدأت فكرة "العفة" بالمعنى
الأخلاقي بالتراجع، بل أصبح التذكير بهذه القيمة الأخلاقية والسلوكية بمثابة عودة
إلى الوراء و"رجعية" تتنافى مع "التقدم" الذي وصل إليه المجتمع بعدما رفض كل القيم
السابقة.
* العفة الفردية والاجتماعية
والمقصود بالعفة تلك الضوابط في إظهار الجسد من جهةٍ، وفي حركة هذا الجسد من جهة
ثانية، بالإضافة إلى القيمة الأخلاقية في العلاقات بين الأفراد أنفسهم، لأن العفة
يمكن أن تتجاوز الجانب الفردي والجسدي إلى الجانب الاجتماعي العام، بحيث يمكن القول
إن هناك مجتمعاً عفيفاً، أو إن قيم العفة تسود في هذا المجتمع أو ذاك، مثلما نقول
إن سلوك هذا الفرد يتسم بالعفة والأخلاق. تشهد مجتمعاتنا العربية والإسلامية
اليوم تحدياً كبيراً حول هذه القضية، فثمة من يناقش أصلاً في قضية العفة نفسها،
ويعتبر أن تغطية الجسد خصوصاً بالنسبة إلى النساء لا علاقة له بالسلوك.. أي إن
السلوك الصحيح لا يرتبط بغطاء الرأس أو بستر الجسد. ونحن نشهد مثل هذه النقاشات أو
الدعوات على الرغم من كل التقدم الذي أحرزته الحركات الإسلامية في مجتمعاتها، وعلى
الرغم من انتشار الحجاب بشكلٍ واسعٍ في هذه المجتمعات، خصوصاً في أوساط الجيل الشاب
وحتى في المجتمعات الأوروبية نفسها. ويستند أصحاب تلك الدعوات إلى بعض السلوكيات
التي لا تتناسب مع وقار الحجاب أو مع الهدف من ارتدائه، مثل الحجاب الذي لا يراعي
الضوابط الشرعية من حيث اللون أو من حيث تغطية الجسد كما هو مطلوب... ومن المعترضين
على قضية "العفة" الأخلاقية أو السلوكية، مَنْ يحاجج بالقول إن هذه القضية هي قضية
فردية لا علاقة للمجتمع بها، بمعنى أن ما يقوم به الفرد يجب ألا يؤذي الآخر أو
يعتدي على حريته، فإذا فعل ذلك فله مطلق الحرية في أن يقوم بما يريد. لذا لا يمكن
للمجتمع أن يفرض الحجاب أو العفة السلوكية على الآخرين. هذه الفكرة تعود، في
الحقيقة، إلى فكرة الفردية التي تطورت كثيراً منذ انهيار سلطة الكنيسة التي أشرنا
إليها، علماً بأن كل المجتمعات البشرية كانت على الدوام تهتمّ بهذا الجانب، وكانت
النساء، على سبيل المثال، يلتزمن بالثوب الفضفاض، كما كان كل رجال الدين من جانب
آخر يرتدون أيضاً زياً فضفاضاً. هذا يعني أن قضية العفة كانت قضيةً ملازمةً
للمجتمعات القديمة.
* في سبيل المجتمع الفاضل
السؤال الذي يطرح اليوم أيضاً: هل تحتاج المجتمعات إلى هذا القدر من العفة بمعنى
الامتناع عن الإثارة أو عن تحريض السلوك أو عن الدعوة المباشرة أو غير المباشرة إلى
تحرير العلاقات بين الجنسين أو غير ذلك، أو كما يحلو لبعض الناس أن يعتبر أن حرية
الفرد لا يجوز لأحدٍ أن يتدّخل فيها أو أن يفرض عليها الممنوعات أو الحدود التي
ينبغي الالتزام بها؟ لا يمكن أن نتحدث عن العفة أو عن الأخلاق من دون المرجعية
الدينية، أي من دون مرجعية الإسلام والمسيحية واليهودية. كل الأديان السماوية
اعتبرت "العفة" القضيّة الأساس على المستويين الفردي والاجتماعي، أي إنها كانت تريد
فرداً فاضلاً ومجتمعاً فاضلاً. وربما لهذا السبب فرضت كل هذه الأديان زيّاً فضفاضاً
على النساء، ودعتهن إلى الاحتشام، ومنعت أو حرمت في الوقت نفسه كل ما من شأنه أن
يضعف هذه العفة أو يؤدي إلى شيوع الفساد أو "الفاحشة" بالتعبير القرآني. إن الإنسان
الذي يعيش في مجتمع، مهما كان نوع هذا المجتمع أو درجة تقدُّمه أو تديُّنه، هو
إنسان يعيش مع الآخرين، أي إن ما يفعله أو يقوله أو يلبسه سيؤثر بطريقةٍ أو بأخرى
على الآخر الذي يعيش معه في هذا المجتمع. ولذا عليه أن يأخذ بالاعتبار هذا التأثير
على الآخر.
وبهذا المعنى لا يحق لأي فردٍ أن يفعل ما يشاء أو يقول ما يشاء أو يرتدي
ما يشاء بذريعة الحرية الفردية. وفي كل دساتير العالم، حتى في الغرب اليوم، هناك
ضوابط وممنوعات تحدّ من السلوك ومن الحريّات في إطار ثقافة هذه المجتمعات. لكن
الغرب عموماً ليس لديه قيود، لا على زي النساء ولا على العلاقات بين الجنسين. لقد
ترك هذه القضية للأفراد ليفعلوا ما يرغبون فيه شرط ألا يرغموا الآخر على فعل ما
يخالف إرادته، لكن من دون أي بعد أخلاقي. فالتجربة الغربية شددت على حرية الفرد
أكثر ممّا شدّدت على الجانب الأخلاقي الذي تفترضه العفة. لكن المشكلة هنا أن كل
وسائل الإعلام التي ساهمت بدورها في التحريض على تحقيق الشهوة وعلى تحريض الرغبة،
وعلى تأكيد حرية الفرد، لم تقدم إلى هذا الفرد الوسائل التي تكفل له تحقيق تلك
الرغبة. فصار هذا الأخير أسير مثيراتٍ كثيرة، تسبب له عدم الاستقرار وتجعل علاقاته
مع الآخرين تحت سطوة التحريض الغرائزي الذي تقوم به وسائل الإعلام والاتصال على
أنواعها. ولذا نشهد في الغرب، على الرغم من إباحة العلاقات بين الجنسين، من دون أي
ضوابط أخلاقية، أن التوتر هو الذي يسود هذه العلاقات، وأن درجات العنف في هذه
العلاقات هي الأعلى في العالم، وأن الجرائم التي ترتكب بحق النساء تفوق بما لا يقاس
تلك التي ترتكب في البلاد الإسلامية حيث "العفة" لا تزال إلى حدٍّ كبيرٍ مرجعاً
ثقافياً ودينياً.
* ضبط السلوك
على مستوى آخر لا يمكن أن يُترك الإنسان ليقدِّر بنفسه مقدار ما يمكن أن يلتزم به
من أخلاق أو عفّة تجاه نفسه أو تجاه الآخرين، لأن مشاعر الإنسان متقلبة، ومزاجه
متغيّر، وما يجري حوله غير ثابت. لذا هو يحتاج إلى "سقف" أخلاقي أو ديني يحدّد له
ما يمكنه القيام به وما لا يمكنه تجاوزه. وهذه هي "العفة"، أي ضبط السلوك بما
يتناسب مع القيم الدينية والأخلاقية. وخلاف ذلك يعني أن يدخل الإنسان في نفقٍ من
الخيارات يصعب الخروج منه. ولذا عاش كثير من المفكرين في دوامة القلق والاضطراب
النفسيَّين، التي دفعت بكثير منهم إلى الانتحار عندما فقدوا أو تخلّوا عن هذا البعد
الديني والقيمي والأخلاقي في رؤيتهم إلى ذاتهم وإلى العالم. إن المجتمع الذي يحاول
الالتزام بقيم "العفة" على مستوى ما يمكن القيام به وما يجب الامتناع عنه، (من حجاب
المرأة إلى غض البصر إلى الامتناع عن الغيبة إلى حفظ حق الجار إلى ما يمسُّ السلوك
الفردي من تناول الكحول إلى إشاعة الفساد أو الانحراف وسوى ذلك...) هو مجتمع يمكن
أن يشعر بالاطمئنان وبالأمن الاجتماعي، حتى على المستوى الفردي أيضاً. إن هذا
الالتزام يخلق حالة من الاستقرار النفسي؛ لأن الفرد يعرف تماماً أن رغباته لا حدود
لها، وأن هذه الرغبات لا يمكن تحقيقها مهما فعل الإنسان وما جرى في التجربة الغربية
من قلقٍ حياتي ووجودي سببه الأساس هو هذا الانفلات في الرغبة بعيداً من معايير
العفة والأخلاق... وقد بدأت بعض الدراسات في الغرب نفسه تتحدث عن أهمية العودة إلى
النظام الأخلاقي العائلي والاجتماعي لحماية مستقبل المجتمع الغربي كلّه.
* مرجعية العفة
في المحصلة يمكن القول إن أي مجتمع مهما ابتعد عن القيم الدينية لا يمكنه الوصول
إلى برّ الأمان. كما إن أي تجربة فردية إذا ابتعدت عن قيم "العفة" لا يمكن أن تحقق
الاستقرار النفسي لصاحبها. ومثلما يحتاج أيُّ مجتمع إلى نظام دستوري وإلى قوانين
تحدّد الحقوق والواجبات، كذلك يحتاج كل مجتمع إلى "قوانين" أخلاقية تحدّد أيضاً ما
يمكن أن نفعله وما لا يمكن القيام به، ليس لأن ذلك قد يؤدي إلى الاضطراب في المجتمع،
بل لأن ذلك سيؤدي أيضاً إلى الاضطراب الفردي. وعندما تنتشر مؤسسات العلاج النفسي في
المجتمع فعلينا أن نبحث عن غياب هذا الاستقرار الناجم عن فقدان المرجعية الدينية أو
عن تراجع الالتزام بها وفي قلبها مرجعية "العفة" بمعناها الفردي والاجتماعي...