فاديا حيدورة شرّي
في ظلّ ما يواجهنا من تحدّيات واسعة وحروب ناعمة تستفيد
من شعارات تستهوي عامّة الناس كالديمقراطيّة والحريّة وغيرهما... والتي ليست إلّا
شعارات منمّقة، تشكّل أهمّ أداة من أدوات إبليس اللّعين، في محاولة للتعتيم على
القيم السامية والأخلاقيّة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وجاء بها نبيّ الرحمة
صلى الله عليه وآله وسلم
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، نرى لزاماً علينا أن نعدّ أنفسنا ونستنطق
الفطرة الإلهيّة المزروعة في أعماقنا لكي نجد ذاك النور المضيء الذي فطرنا الله
عليه ألا وهو "الحياء".
* الحياء إيمان
ورد في تعريف الحياء أنّه "انقباض النفس عن القبيح، وتركه... حذراً من الذمّ
واللوم". فقد جعل الله تعالى في فطرة الإنسان حبّ الظهور بمظهر الكمال وعدم التلبّس
بأيّ عيب أو نقيصة. هذه الفطرة هي التي تدفعه للابتعاد عن القبائح، فالذي لا يخجل
ولا يستحي أمام الله عزَّ وجلَّ يمكن أن يفعل كلّ القبائح ويرتكب الموبقات.
لذلك عُدَّ الحياء من شعب الإيمان بحيث ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
"الحياء شعبة من الإيمان"(1).
* هل الحياء يستلزم الجهل والانطواء؟
الحياء أمر حسن وممدوح، ولكن قد تنشأ مشكلة من تشخيص القبيح، إذ قد تنقبض النفس
ممّا تظنّه قبيحاً وتتراجع وتنكفئ أمامه في وقت يكون من الأمور الحسنة التي ينبغي
المبادرة إليها والتصدّي لتحقيقها، فيكون الحياء هنا في غير محلّه وينقلب من ممدوح
إلى مذموم، وهذا ما أشارت إليه الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق؛ فحياء العقل العلم وحياء الحمق الجهل"(2).
ويمكن التخلّص من الحياء المذموم من خلال:
1- اعتماد الميزان الصحيح لتقييم الأعمال، فالنقص والعيب الحقيقي هو معصية الله
تعالى ومخالفة أوامره.
2- تقوية الثقة بالنفس وشدّ العزيمة والمبادرة وليذكر قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69)، فالسير الصحيح يكون من خلال الجهاد
والتصدّي للمواجهة.
* الحياء مدرسة الأنبياء
يقول تعالى:
﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ
عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ
تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ
فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءتْهُ
إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ
لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ
الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص: 23-25).
قدّمت لنا الآيات المباركة نموذجاً عن التربية النبويّة، وبيَّنت لنا مدى الحياء
الذي كان من سمات بنات الأنبياء... وهذا الحياء لا ينحصر فقط بالمرأة، بل هو أمارة
ودليل إيمان الرجل أيضاً. فعن مولى المتقين أمير المؤمنين عليه السلام: "كثرة
حياء الرجل دليل على إيمانه"(3).
* ممّن يكون الحياء؟
عن عليّ عليه السلام: "أحسن الحياء استحياؤك من نفسك"(4). إذا امتلك الإنسان
بصيرة يميّز بها القبائح، وقلباً طاهراً ينفر من تلك القبائح، سيخجل من نفسه عند
اقترابه من أيّ قبيح.
ولكن ما دام الحياء هو الابتعاد عن الظهور متلبّساً بالقبائح، ومع عدم فعاليّة
الحياء من النفس، فهل هذا يعني أنّ الإنسان عندما يكون وحيداً فلا محفّز للحياء
لديه؟
ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "استحيِ من الله كما تستحيي من الرجل
الصالح من قومك"، وقد ورد في الحديث القدسيّ: "عبدي إذا استحييت منّي أنسيت الناس
عيوبك، وبقاع الأرض ذنوبك، ومحوت من الكتاب زلاتك، ولا أناقشك الحساب يوم
القيامة..."(5).
وبرحمة منه تعالى أكثر سبحانه من محفّزات الحياء لدى الإنسان حيث جعل من البشر من
يرى أعمالنا أيضاً، كالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم
السلام، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ أعمال العباد تعرض على نبيّكم كلّ
عشية خميس، فليستحيِ أحدكم أن يُعرَض على نبيّه العمل القبيح"(6).
وعن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى:
﴿اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 105)، قال عليه السلام: "هم الأئمّة عليهم
السلام"(7)، وكذلك الملكان الكريمان اللذان يدوّنان الأعمال، فعن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: "ليستحِ أحدكم من ملكيه اللَّذيْن معه كما يستحي من رجُلين
صالحين من جيرانه وهما معه بالليل والنهار"(8).
* حقّ الحياء
لا يسعنا في النهاية إلّا أن نلتجئ إلى مدرسة النبوّة التي ننهل منها أعذب الكلام
في صدد الحياء.
فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "استحيوا من الله حقّ الحياء. قالوا: وما
نفعل يا رسول الله؟ قال: إن كنتم فاعلين فلا يبيتنّ أحدكم إلّا وأجله بين عينيه
وليحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى وليذكر القبر والبلى، ومن أراد الآخرة فليدع
زينة الحياة الدنيا"(9).
1- الكافي، الكليني، ج2، ص112.
2- (م.ن)، ص106.
3- (م.ن)، ص717.
4- (م.ن)، ص719.
5- إرشاد القلوب، الديلمي، ج1، ص111.
6- (م.ن)، ج23، ص344.
7- مستدرك سفينة البحار، النمازي الشاهرودي، ج7، ص167.
8- كنز العمال، المتقي الهندي، ج3، ص118.
9- الأمالي، الصدوق، ص714.