زينب الطحان
"الحروب الصليبية كما رآها العرب" رواية تاريخيَّة تتميّز
بقيمة معرفية عالية. وأوّل ما يلفت في هذه الرواية أنَّها تصدر عن مسيحي لبناني –
فرنسي يعيش في أوروبا، رأى أنَّ رسالته الثقافية في أن يقدِّم للقارئ الغربي رؤية
العرب والمسلمين لمجريات الحروب الصليبية وفق أحداثها التاريخية بعيداً عن
المؤرِّخين الغربيين ووجهة نظرهم من هذه الأحداث، والتي صقلتها في ما بعد الرؤية
الاستشراقية. ينطلق أمين معلوف في روايته التاريخية هذه، مقدِّماً "رواية حقيقية"
عن الحروب الصليبية وعن القرنين المضطربين اللذين صنعا الغرب والعالم العربي ولا
يزالان يحدِّدان حتى اليوم علاقتهما. صدرت هذه الرواية في العام 1983، حيث كانت
قضية الحروب الصليبية نفسها مثار جدل تاريخي وديني بين المؤرِّخين والعلماء العرب
والمستشرقين الغربيين والمؤرخين وعلماء الاجتماع والسياسة.
* أمين معلوف الشغوف بالتاريخ
جاءت أهمية أمين معلوف في أنَّه شغف بالتاريخ العربي القديم، وتوغَّل فيه، إذ راح
يجلو صدأ النسيان عن شخصيات وأحداث كاد التاريخ أن يمحوها. منذ الثمانينات تفرَّغ
أمين معلوف للأدب وأصدر أولى رواياته "الحروب الصليبية كما رآها العرب". وما فعله
في أعماله الروائية المتكئة في أكثرها على التاريخ, والتي حاز بعضها على جوائز
عالمية، هو أنَّه نقل إلى الغربيين وجهة نظر الشرقيين, كما قدَّم لهم جوانب مشرقة
في حضارتنا, هدف من ورائها إلى إقامة حوار من نوع مختلف, كما إلى مراجعة الكثير من
صفحات التاريخ المشترك فهمها الغربيون, في الأعم الأغلب, على نحو مشوَّه. وقد احتفى
الغربيون أيّما احتفاء بكتب أمين معلوف: "الحروب الصليبية كما رآها العرب", و"ليون
الإفريقي", و"سمرقند", و"حدائق النور" وسواها من الأعمال التي أضافت إلى المتعة
والفائدة صفة أخرى شديدة الأهمية، وتلقَّفوها على أنَّها شاطئ يمد جسوراً للحوار
بين العالمين.
* رواية "الحروب الصليبية كما رآها العرب"
بدأت الحروب الصليبية في القرن 11م، ومرَّت بأربع مراحل كبرى، حيث سيطر الصليبيون
في البداية على عدة مدن إسلامية على رأسها القدس، إلا أنَّ انتصار صلاح الدين
الأيوبي في معركة حطين وضع نهاية لانتصارات الصليبيين، وشكّل بداية لحملات فاشلة
توقَّفت نهائياً خلال القرن 13م. تباشر الرواية السرد التاريخي بدءاً من الغزو
(1096-1100م) مع سقوط مدينة نيقية، في 1097م، وكان هذا أوّل انتصار للصليبيين في
حملتهم الأولى. فزاد حماسهم، خاصة وأنَّه تزامن مع نصر آخر حقَّقوه على السلاجقة في
(ضورليوم)، وجعل أبواب آسيا الصغرى مشرَّعة أمام جيوشهم الغازية التي تابعت زحفها
على بقيَّة المدن، حتَّى تمكنَّوا من إخضاع كلِّ الأراضي التابعة للسلاجقة في آسيا
الصغرى. وكان بعدها الزحف إلى الشام ومن ثمَّ إنطاكية وأخيراً بيت المقدس حيث بسطوا
سلطتهم. عندما انقسمت دولة السلاجقة استطاع التركي عماد الدين زنكي أن يستقل بإقليم
الموصل.وما لبثت قوة هذا الرجل أن تضاعفت فقام بهجوم على "الرها"، وتمكَّن من
الاستيلاء على عاصمتها رغم مناعة أسوارها سنة 539هـ/1144م. وكان لذلك هِزة عنيفة،
في أوروبا، أدَّت لدعوة إلى حملة صليبية أخرى. ويحمل نور الدين محمود زنكي عبء
الجهاد والدِّفاع بعد وفاة أبيه ويعيد فتح الرها، ويعود مظفرًا إلى حلب، ومن هناك
يستعدّ للقاء الصليبيين، ويهزمهم بالقرب من دمشق، بل ويهاجم بعد ذلك إمارة إنطاكية
ويستولي على أجزاء منها، ويقبض على أميرها بوهيموند وجماعة من أكابر أمراء
الصليبيين، ثم توج جهوده لمّا دعاه أهل دمشق لحكمهم، فتكونت جبهة إسلامية واحدة
تمتد من حلب إلى دمشق. وبعدما تأسست الدولة الأيوبية(1)، عقد صلاح الدين معاهدات
متفاوتة مع الصليبيين ليتفرغ لتوحيد الجبهة الإسلامية، ولكنهم نقضوا العهد. وكان
النصر مدوياً للعرب حيث التقت جيوش المسلمين بجيوش الصليبيين في "حطين" وكان ذلك في
العام 583هـ/1187م. لم يكن أمام جيش صلاح الدين بعد هذه المعركة إلا أن يتقدَّم
نحو القدس، وتقدَّم المسلمون ينقبون الأسوار، فاستسلم الفرنجة، وطلبوا الصلح، فقبل
صلاح الدين. لا تنتهي الرواية مع هذه المعركة بل تكمل سردها التاريخي نحو "السوط
المغولي" و"لا قدر الله أن تطأ أقدامهم بلادنا بعد اليوم"..
* ملاحظات لا بد من ذكرها
من الجميل أنَّ الكاتب يذكر معلومات دقيقة عن قيام جنود الحملات الصليبية بنهب كلِّ
الممتلكات التي احتلوها، بما فيها الكنائس المسيحية في الشرق العربي واضطهاد
الرهبان وقتلهم. وهو ما يؤكِّد كذب الأفرنج وادِّعائهم في أنَّ قيامهم بهذه الحرب
هو في سبيل إنقاذ مسيحيي القدس من اضطهاد المسلمين. ولقد كان قوام بحثه "الروائي"
جملة وثائق محفوظة في المكتبة الظاهرية في دمشق، وعمادها الرئيسي حوليات ابن المنقذ،
بالإضافة إلى الترجمات التي قام بها المعهد الفرنسي للدراسات الشرقية بدمشق. وفي
مكتبة كلية آداب جامعة بروفانس، الكتب والوثائق الفرنسية التي أرّخت لنفس الحقبة،
فيها ما يكفي من معلومات عن الحملة الصليبية الأخيرة. هذه مدونة في معظمها من قبل
المؤرخ الفرنسي الشهير ألبير ديكس، الذي رافق تلك الحملة الأخيرة على الشرق، وأتت
متزامنة مع حوليات ابن المنقذ في إطارها التاريخي. وهنا كانت المفاجأة المذهلة.
فلقد سمحت المقارنة الدقيقة بين هذه النصوص برؤية الحدث ذاته مسروداً بوجهتي نظر
متطابقيتن. إذ أفردت رواية أمين معلوف فصلاً عن حصار مدينة المعرَّة، الذي دام ستة
شهور، واستسلامها إثر نفاد المؤن وموت كهولها والكثير من أطفالها جوعاً وبرداً،
ففتح وجهاؤها بابها الشمالي سامحين للجيوش التي تحاصرها باقتحامها وذبح معظم
سكانها. المفارقة العجيبة في هذه الواقعة أن الوثائق الفرنسية جميعها اشتركت مع
الوثائق العربية، بنسبة كبيرة، في وصف تفاصيل حصار المدينة. لكن لم تشر وثيقة واحدة
إلى مسألة أكل الجنود للحوم البشر بعد اعترافهم باستباحة المدينة. بينما في الرواية
نحصل على تأكيد موثَّق من قبل الكاتب حيث يورد أكثر من وثيقة تاريخية تثبت أن
الصليبيين أكلوا جثث المسلمين(2): "وكانوا جماعتنا في المعرة يغلون وثنيين بالغين
في القدور ويشكون الأولاد في سفافيد ويلتهمونهم مشويين". هذا الخبر أورده المؤرخ
الفرنجي "راول دي كين" كما يقول المؤرخ الفرنجي "البير دكس" الذي شارك بشخصه في
معركة المعرة: "لم تكن جماعتنا لتأنف وحسب من أكل قتلى الأتراك والعرب بل كانت تأكل
الكلاب أيضاً"(3).. ولا بد من القول إن الحروب الصليبية أدت إلى احتكاك
الحضارتين الإسلامية والمسيحية إذ شكل المشرق العربي مكاناًَ لاتصال الأوربيين
بالحضارة العربية الإسلامية خلال هذه الحروب، واطلعوا خلالها على التطور الذي وصله
العرب في فنون الزراعة والصناعة والثقافة والأدب، ونقلوا بعض مظاهر التفوق العربي
في الهندسة المعمارية وباقي مجالات المعرفة.
(1) يغفل الكاتب هنا بعض الحقائق التاريخية التي قام بها صلاح الدين باضطهاده
للشيعة.
(2) الحروب الصليبية كما رآها العرب، أمين معلوف، ترجمة عفيف دمشقية، دار الفارابي،
ص63.
(3) المرجع نفسه، ص 64.