الشيخ كاظم ياسين
لا بد أولاً من تحديد مفهوم خدمة الناس:
الأول: هو ما يقوم به الإنسان المؤمن الفرد، بغض النظر عن كونه جزءاً من حركة سياسية مقاومة.
الثاني: هو ما يقوم به الإنسان من خلال كونه جزءاً من هذه الحركة، فيصب فعله في عمل كلّي واسع ويعدُّ جزءاً من برنامج استراتيجي. فليست خدمة الناس هنا عملاً فردياً مقطوعاً، وحالة أخلاقية ذات بعد فردي خيري، بل هي عمل جماعي سياسي مبرمج، وهادف.
بناء على المفهوم الأول يقوم رجال أو نساء مؤمنون مخلصون بتقديم خدمات شخصية أو عبر مؤسسات، للناس من خلال تقديم المساعدات، والمال، وتوزيع الصدقات. فتكون جدلية العلاقة بين الطرفين: إيجابية من جهة الخادمين، بمعنى أنهم يقومون بالتقديم والفعل، وسلبية من جهة المخدومين، فيكتفون بتقبل المساعدة، واستلام الأموال، وتلقي المعونات، وانتظارها حتى تأتي. فيكون أفق الخدمة للناس في بلادنا قضية فردية مالية محدودة، تتعلق بدعمٍ، وعلاجٍ، وقرضٍ ومساعدةٍ. وبناء على المفهوم الثاني، فإن روح خدمة الناس هي استثارة كوامن الخير والعطاء عند الناس أنفسهم، وتطبيق شعار خدمة الناس بالناس. فتكون خدمة الناس مجموعة تراكمات جزئية منظمة على طريق إنجاز تحوّل نوعي تاريخي في الأمة، يضعها على طريق إحراز النصر الكبير، باقتلاع إسرائيل من بلادنا؛ وبناء المجتمع الجديد، عبر إعادة صياغة الإرادة الشعبية المنظمة المتكافلة المنتجة التي تعتمد على نفسها، وعلى قواها الذاتية؛ وتكون مهمة التنظيم، والكوادر، والعاملين تفجير طاقات الشعب الجبارة، واكتشافها ثم تأطيرها وتنظيمها. ولعل هذا هو المقصود بالشعار الذي أطلقه سيد شهداء المقاومة (سنخدمكم بأشفار عيوننا)!
* تعدد طرق الخدمة
فالخدمة لا تنحصر في طريق محدد، بل تكاد تكون طرقها بعدد أنفاس الخلائق. كذلك تتعدد طرقها بتعدد قدرات الإنسان المؤمن، وإمكانياته وأساليبه. وهي تبتدئ بالكلمة الطيبة، والإصلاح بين الناس، وتمر بالمال، وإعطائه كهبات، أو صدقات، أو قروض، وتنتهي ببذل المهج من أجل حياة الناس، واستقرارهم في أوطانهم أحراراً.
1- بذل المال : وهو أدنى مصاديق الخدمة، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أحب الأعمال إلى الله عز وجل إدخال السرور على المؤمن، إشباع جوعته أو تنفيس كربته أو قضاء دينه".
2- استعمال المنصب والجاه والرئاسة
فيمكن استعمال الجاه، والمنصب، والرئاسة للتخفيف عن الناس، فإذا كان الإنسان المؤمن يحتل مركزاً اجتماعياً أو سياسياً في المجتمع، فقد يكون قادراً على خدمة الناس، فيصلح ذات بينهم، أو يتدبر لهم عملاً، أو يساعد على نشر الثقة بينهم؛ فتتأسس مشاريع عمل وإنتاج، فيحفظ بذلك كرامتهم، ويصونهم من بذل ماء وجههم. عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إن الله تعالى ليسأل العبد في جاهه كما يسأله في ماله، فيقول يا عبدي رزقتك جاهاً، فهل أعنت به مظلوماً أو أعنت به ملهوفاً". وعن الإمام الصادق عليه السلام:"من كان وصله لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في منفعة بر أو تيسير عسر، أعين على إجازة الصراط يوم دحض الأقدام". وعنه أيضاً عليه السلام:"من كان وصلة لأخيه بشفاعة في دفع مغرم أو جر مغنم، ثبت الله قدميه يوم تزل فيه الأقدام". وعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "إن في شيعتنا لمن يهب الله تعالى له في الجنان من الدرجات والمنازل والخيرات ما لا تكون الدنيا وخيراتها في جنبها إلا كالرمل في البادية الفضفاضة فما هو إلا أن يرى أخاً له مؤمناً فقيراً فيتواضع له ويكرمه ويعينه ويمونه ويصونه عن بذل وجهه له حتى يرى الملائكة الموكلين بتلك المنازل والقصور وقد تضاعفت..."
3- تقديم الاستشارة والنصح
ويمكن أن تكون الخدمة على شكل نصيحة يحتاج إليها الناس، وتساعدهم على حل مشاكلهم، ومصاديقها كثيرة، كتقديم مشورة علمية، أو تجارية، أو صناعية. فيقوم التاجر المؤمن المخلص، والمحب لإخوانه المؤمنين بتقديم نصيحة لأخيه المؤمن: تاجر بالمادة الفلانية، ولا تتاجر بالمادة الفلانية. كذلك يستطيع الإنسان المتعلم المؤمن أن ينصح أخاه المؤمن: تخصص في المجال الفلاني، أو ابتعد عن المجال الفلاني. فعن الإمام الصادق عليه السلام:"من مضى مع أخيه في حاجة فناصحه فيها، جعل الله تعالى بينه وبين النار يوم القيامة سبعة خنادق والخندق ما بين السماء والأرض". بل نجد أهل البيت عليهم السلام يعتبرون عدم النصيحة مع القدرة عليها خيانة! فعن الإمام الصادق عليه السلام:"من مشى مع أخيه المؤمن في حاجة فلم يناصحه فقد خان الله ورسوله". الاهتمام بمواضع الحاجة في المجتمع والاطِّلاع على مظانها:
لا بد من الاهتمام برصد مواضع الحاجة في المجتمع عبر دراسات تعتمد على معلومات دقيقة؛ كي تكون الصورة واضحة أمام الأفراد، أو المؤسسات التي تقوم بالخدمة.
فالاهتمام بذلك أكد عليه الإمام الباقر عليه السلام حيث يقول: "إن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه، فلا تكون عنده فيهتم بها قلبه، فيدخله الله تبارك وتعالى بهمّه الجنة".
* تنظيم تشكيلات للخدمة:
وهو بمعنى إعداد العدة للخدمة على المستوى المادي والنفسي، وذلك عبر تشكيل الأطر التنظيمية التي تعنى بهذا العمل ابتداء بالدراسة والإحصاء، ومروراً بتشكيل اللجان التي تفكر، وتستنتج وتضع الخطط التطبيقية والبرامج لتلبية حاجات الناس من خلال وضع سياسة مناسبة لذلك، وهذه مسؤولية كبيرة إنسانية وأخلاقية ودينية.
* دور الأغنياء في الخدمة:
لا بد من أخذ الأغنياء دائماً بعين الاعتبار في أي مجال من مجالات الخدمة، وبحسب أي مفهوم. فالمال عصب الحياة الاقتصادية، ولا ينبغي أن نحصر مفهوم الخدمة بالمفهوم الأول، والاكتفاء من خدمة الناس بمصاديق الصدقة، والقرض، وتوزيع الحقوق من الخمس، والزكاة على المستحقين؛ بل ينبغي إدخال الأغنياء، وأصحاب الرساميل في خطط، ومشاريع إنتاجية، أو صناعية، أو تجارية بعيدة المدى، يكون هدفها تحصين المجتمع ببعديه الإسلامي والوطني، كجزء من السعي نحو الاستقلال السياسي والاقتصادي.
* الأسواق ورعاية الفقراء:
لا بد من الإشارة أولا إلى موقع الفقراء، وطبقات المستضعفين بشكل عام في قضية خدمة الناس. فليس البعد الأخلاقي هو فقط ملاك الخدمة هنا، بل الملاك، وروح الاهتمام بهذه الطبقات هو أنها هي التي تدافع عن الإسلام، وتقف إلى جانب المقاومة، وهي التي تقدم أولادها، وفلذات أكبادها وقوداً للثورة، وقرابين على مذبح الحرية والاستقلال؛ وهي التي ارتبطت مصالحها الإستراتيجية دائماً بالمصلحة الوطنية والدينية الإسلامية الكبرى، في بلادنا التي سوف تؤدي إلى هزيمة إسرائيل، واقتلاعها من الوجود وقطع أيدي الاستكبار الغربي عن بلادنا. وإن مشكلة السوق الاستهلاكية، والسيطرة التامة للسوق العالمية على أسواقنا المحلية أضرت كثيراً بمجتمعاتنا، وجعلتها سوقاً (فلتانة)؛ حتى أصبح المستضعفون والفقراء غرباء في هذا العالم الجشع، وحتى كاد عالم المترفين والمستكبرين العالميين يلقي بكل ثقله عليهم.
ومن هنا كان من أساسيات الخدمة للناس قيام قوى مخلصة بتنظيم سوق يحصل فيه الفقير والمستضعف على حاجاته بسعر الكلفة. وهذه الفكرة ينبغي أن تمتد لتشمل المدرسة، والمستشفى، والمكتبة. وهذه الفكرة تتم، كما قلنا ، بالتعاون مع الأغنياء، خصوصاً الوطنيين، والإسلاميين منهم.
* الإخلاص بالنية
إن خدمة الناس لوجه الله تعالى هي من الصفات التي ذكرها القرآن الكريم في حق أهل البيت عليهم السلام ومدحهم عليها ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾(الإنسان: 9).
يقول الإمام الخميني قدس سره: "ولا تسعَ لكسب السمعة والمحبوبية من خلال هذه الخدمة فهذه بحد ذاتها من حبائل الشيطان التي يوقعنا بها".
* الخدمة نعمة إلهية
تؤكد الروايات عن المعصومين عليهم السلام أن الخدمة هي نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده، وهي توفيق منه تعالى، فينبغي أن نشكر الله تعالى عليها. وقد جاء في الأخبار المروية عن أهل البيت عليهم السلام أنهم كانوا يتناولون الصدقة من يد المحتاج، ويقبلونها ثم يعيدونها إليه، وكانوا يقولون إنهم يقبلونها لأنها وقعت في يد الله عز وجل. فعن الإمام الحسين عليه السلام:"إن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملوا النعم فتتحول إلى غيركم". وفي رواية عن إسماعيل بن عمار الصيرفي قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام:جعلت فداك المؤمن رحمة على المؤمن؟ قال: نعم، قلت: وكيف ذاك؟ قال عليه السلام:"أيما مؤمن أتى أخاه في حاجة فإنما ذلك رحمة من الله، ساقها إليه وسبَّبها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها، وإن ردَّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنما رد عن نفسه رحمة من الله عز وجل ساقها إليه، وسببها له...".
وفي رواية عن الكاظم عليه السلام:"من أتاه أخوه المؤمن في حاجة، فإنما هي رحمة من الله ساقها إليه، فإن فعل ذلك فقد وصله بولايتنا، وهي موصولة بولاية الله عز وجل، وإن ردَّه عن حاجته وهو يقدر عليها فقد ظلم نفسه وأساء إليها".
* عدم المنَّة
لا شك أن المنة على الناس من الأمور المبطلة لآثار الخدمة في البعد الإلهي الأخروي، ولكنه أيضاً من عوامل إحباط آثار الخدمة في الحياة الدنيا، ومن أسباب الفشل والهزيمة؛ لأن خدمة الناس في الحقيقة هي جزء لا يتجزأ من مقدمات إحراز النصر الأخير، فليست عملاُ منقطعاً يستطيع أي فرد أن يقطف ثماره الفردية تعالياً ومنَّة.