دروس من فتاوى الحج: المبيت في منى(استعداد دعوة)
السيد بلال وهبي
منى: مشعر أساسي من مشاعر الحج المبارك، ومعلم مهم من
معالم الارتحال إلى اللَّه تعالى، وهي موقف متميز مليء بالمعاني زاخر بالدلالات.
على الحاج أن يعيشها ويتلمسها ويلتمسها وهو في ضيافة اللَّه في تلك البقاع المقدسة.
والحج الذي يخلو من تلكم الدلالات لا يكون حجاً إبراهيمياً حقيقياً، ولن ينتفع
الحاج من حجه ذاك. لأن الحج في عمقه هو هذه الدلالات وتلك المعاني، وليس مجرد طقوس
جافة خاوية.
* سبب التسمية
ومن المهم ونحن نريد أن نتبين تلكم المعاني والحكم التي تزخر بها منى المقدسة يحسن
أن نطل على أصل تسمية ذلك المكان لننطلق من خلال التسمية إلى فهم ما في ذلك المشعر
المقدس. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:
أن جبرائيل أتى إبراهيم
عليه السلام فقال: تمنَّ يا إبراهيم، فكانت تسمى منى فسماها الناس منى(1) وعن محمد
ابن سنان أن أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه العلة التي من أجلها سميت منى
منى، أن جبرائيل عليه السلام قال هناك:
يا إبراهيم تمنَّ على ربك ما شئت فتمنى
إبراهيم في نفسه أن يجعل اللَّه مكان ابنه إسماعيل كبشاً يأمره بذبحه فداء له فأعطي
مُناه(2). وتحدث الشيخ محمد بن الحسن النجفي قدس سره عن منى ومناسكها في موسوعته
الفقهية جواهر الكلام فقال:
وسميت بذلك لما يُمَنَّى بها من الدعاء، لما عن ابن
عباس أن جبرائيل عليه السلام لما أراد أن يفارق آدم عليه السلام قال له: تَمَنَّ.
قال: أتمنى الجنة فسميت بذلك لأمنية آدم(3).
فمنى إذا أرض الأماني والتمني، أرض
الدعاء والطلب والإبتهال، أرض التوجه إلى اللَّه تعالى بالحاجات، والطلب إليه في
كفاية المهمات هذا ما دلت عليه الروايات المتقدمة وهذا ما يجب على الحاج أن يستحضره
ويعيشه في تلك الأرض المقدسة أن يتمنى ويتمنى ولتكن الأمنيات أمان أخروية لا دنيوية
والطلبات طلبات المغفرة والرحمة لا شيء غيرها. لأن طلبات الدنيا من رزق وصحة وغيره
كل هذا قد كفله اللَّه تعالى لمن أراد له الحياة، فأما الغفلة عن الدعاء والمناجاة
تحيل الحج إلى مجرد رحلة استكشاف لا رحلة تطهر وتزكٍّ وتمنٍّ على اللَّه تعالى،
وكيف يغفل الإنسان عن المناجاة والدعاء والطلب وهو ضيف اللَّه وبين يديه، كيف يغفل
وهو في أرض تحت ذنوب الإنسان وفي زمن يفيض قداسة ودلالة، ففي الحديث الشريف عن
الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إذا أخذ الناس منازلهم بمنى نادى مناد: يا منى
قد جاء أهلك فاتسعي في فجاجك واترعي في مثابك، ومناد ينادي: لو تدرون بمن حللتم
لأيقنتم بالخلف بعد المغفرة(4).
* شعائر ودلالات:
وفي منى شعائر متعددة ولكل شعيرة ودلالتها وإيحاؤها وأول تلك الشعائر النفر إليها
من المزدلفة في جو مهيب وموكب رباني يأخذ بفؤاد الإنسان متخطياً به الزمن إلى ذلك
اليوم الذي يحشر الناس فيه لرب العالمين ليمثل مشهداً مصغراً عن مشهد الحشر يوم
القيامة والمشهدان متقاربان من حيث الشكل والمضمون ففي الآخرة يحشر الناس إلى
اللَّه كل أمة تدعى بإمامها وفي منى ينطلق الناس إليها يرجون رحمة اللَّه ونواله
وهم شبه عراة من زينة الدنيا ومتاعها، يحشرون كل خلف إمامه ومعرِّفه وهاديه، يفيضون
وهم قائلون: "الهم سلم عهدي واقبل توبتي وأجب دعوتي واخلفني في من تركت من بعدي".
إن الربط بين ما نمارسه في الحج من شعائر وما يماثله في الآخرة أمر مقصود للشارع
المقدس ويجب أن يكون ملحوظاً للحاج.
عيد الأضحى:
هو عيد لجميع المسلمين أينما كانوا لكن للحجيج روحية أخرى معه فمن عندهم ينطلق
لتتوزع بركاته على أرجاء الأرض وهو عيد يقوم على أساس التضحية للَّه تعالى ومن هنا
فدلالته تختلف عن دلالة عيد الفطر السعيد في أن عيد الفطر تحلل من الصوم وتسلم
للجائزة، بينما الأضحى تضحية وفداء وتقدمة للَّه تعالى فهو في الأضحى يحتفل عاملاً
مضحياً. والأضحية هي تقدمة الدم في اللَّه رمز للتضحية بالنفس فضلاً عن المال في
سبيل الحق تعالى وفداءً لدينه وكلمته، ذلك هو المراد من الأضحية في منى وهذا ما
لفتت إليه الآية الكريمة إذا قالت:
﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ
التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾(5).
كل هذا يتم في لحظات رائعة من التسليم والرضا لأمر اللَّه والتقرب إليه، وساعات
تفيض بالأمل والرجاء والشوق إلى المغفرة والنجاة، في مشهد وما أدراك ما هو، الناس
فيه بين مضح بهديه للَّه، وبين راجم للشيطان، وبين عاجٍّ بين يدي المولى بالدعاء،
هكذا هو مشهد يوم الأضحى في منى، يروي الإمام علي عليه السلام أن رسول اللَّه صلى
الله عليه وآله خطب يوم الأضحى فقال: "أيها الناس هذا يوم الثجِّ والعجِّ،
فالثجُّ يهرقون فيه الدماء فمن صدقت نيته كانت أول قطرة كفارة لكل ذنب، والعجَّ
الدعاء فعجوا إلى اللَّه عزّ وجلّ فوالذي نفس محمد بيده لا ينصرف من هذا الموقف أحد
إلا مغفوراً له إلا صاحب كبيرة مصر عليها لا يحدث نفسه بالإقلاع عنها"(6).
* رمي الجمرات:
وبعد النفر إلى منى ينبغي على الحاج أن يؤدي شعيرة أخرى لها دلالتها العظيمة
وإيحاؤها الفريد أعني بها رمي الجمرات وهي رمز للشيطان الذي يمثل الكفر والفسق
والفجور والمعصية والظلم والشر وكل تلكم الأمور التي تتصادم مع حركة الإنسان إلى
اللَّه تعالى، وحين يرم الإنسان هذا الرمز لا يحصر ذهنه وفعله في تلك الحصيات التي
يرميها على ذلك النصب من الحجارة إنما يمتد فكره وعقله إلى كل مواقع الشر والفساد
ليمقتها ويطردها من عقله وساحة وجوده. والشياطين كثيرون، كثيرون جداً ولذلك ناسب أن
تكون الجمرات التي على الإنسان أن يرجمها أكثر من واحدة، بينما كانت الكعبة واحدة
لأنها ترمز إلى التوحيد.
الحلق أو التقصير:
هذه الشعيرة الواجبة التي بها يتحلل المرء من الإحرام، والملفت للنظر هنا أن
الإحرام كما نعلم هو نبذ لزين الدنيا وتشبه بأحوال الآخرة، والتحلل من الإحرام يعني
عودة الإنسان إلى دنياه بعد أن غادرها ولو معنوياً وروحياً، ولا يتحلل الحاج من
إحرامه إلا بالحلق أو التقصير لشعره، والشعر هو ما يتزين به الإنسان لكن حلقه يبقى
علامة تصاحب الحاج حتى عودته إلى وطنه كعلامة على تلك الرحلة الربانية المقدسة، لأن
الحاج لن يعود حاملاً أضحيته، ولن يعود لابساً ثوبي إحرامه يبقى الحلق هو العلامة
والسمة. كل هذه الشعائر تتم في منى أرض التطهر والتنزه، وهي في هذا تقابل أرض مكة
المكرمة لكنها تلتقي معها في النهايات والغايات، ففي مكة يطوف الحاج حول البيت
معلناً عملياً عن مركزية التوحيد في حركة الإنسان في الحياة، ومكرساً عقيدة وحدة
اللَّه من خلال الطواف حول بيته، وفيها أيضاً يسعى الحاج بين الصفا والمروة ليعيد
التأكيد من جديد على مبدأ أن تكون الحركة في الحياة منطلقة من اللَّه وإليه فلا
الإنطلاق من غيره إليه ولا الإنطلاق من اللَّه إلى غيره، إنما اللَّه هو البداية
وهو النهاية. فالملحوظ في مناسك المسجد الحرام هو الإثبات إثبات الوحدانية من خلال
ممارسة ما يرمز إليها، وأما مناسك منى ففيها ممارسة النفي لما عدى اللَّه والخصومة
مع الكفر والفسق والفجور والمعصية، ونبذ الدنيا، الدنيا التي تصد عن سبيله سبحانه.
فهنا في منى يضحي، وفي منى يرجم، وفي منى يحلق، وكل هذه رموز لرفض العوائق التي
تحول بين الإنسان وربه.
على أن ما يجمع بين أفعال الحج كلها هو الدعاء والطلب
والتمني على اللَّه أن يحقق الأمنيات كلها. وكيف لا يكون الدعاء جامعاً بين الأفعال
كلها وهو مخ العبادة، وعود الدين ونور السماوات والأرض، وأحب الأعمال إلى اللَّه
تعالى في الأرض، وأفضل أنواع العبادة على الإطلاق كما نصت الروايات الشريفة على
ذلك. فكم حري بحجاج بيت اللَّه الحرام وضيوفه أن لا يدعو تلك الفرصة العظيمة التي
منحهم اللَّه إياها رحمة منه وكرماً علَّ اللَّه يرحم العاصي، ويعفو عن المذنب
الخاطئ ، ويستجيب للمحتاج في أرض الأماني أرض الرجاء في منى المقدسة.
(1) علل الشرائع، ج2، 435.
(2) المصدر السابق، ص436.
(3) جواهر الكلام، ج19، ص100.
(4) فروع الكافي، 4، ص256.
(5) سورة الحج، الآية: 37.
(6) الجعفريات، 46.