الشيخ يوسف عاصي
يقول تعالى في كتابه العزيز على لسان النبي صلى الله عليه
وآله:
﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ
مَهْجُورًا
﴾ (الفرقان: 30). هذه الشكوى الأليمة من رسول
الله يبثها في يوم القيامة،
وهو الرؤوف وصاحب القلب العطوف حيث يقف بكل حسرة شاكياً بألم وحرقة. إن هذه الشكوى
من رسول الرحمة لها معنى كبير فهو لا يشكو إلا من خطب جلل وأمر عظيم وخطيئة مهلكة..
وأين يشكو؟.. إنه يشكو في يوم القيامة أمام رب العالمين.. وعلى من يشكو؟.. إنه يشكو
قومه الذين أحبهم وكادت تذهب نفسه حسرات عليهم، والذين لأجلهم بل لكل العالمين
أُرسل رحمة.. إن هذا القدر من التأمل في هذه الآية الشريفة يكشف خطورة الجرم
المرتكب بحق القرآن العظيم، لو كنّا مصداق الهاجرين له والتاركين لما بين دفتيه،
فما هي قيمة هذا الكتاب وأي فضل له؟ وما هي مظاهر هجرانه وأسبابها؟ وأي آثار تترتب
على ذلك؟
أهمية القرآن وفضله: القرآن هو الكتاب المقدس بقدس
الله وجلاله، فلو رجعنا إليه
وهو الناطق بالحق لا يأتيه الباطل من بين يديه تجده: لا ريبَ فيه هدى للمتقين، فيه
شفاء لما في الصدور.. فيه تبيان لكل شيء.. هو نور
الله الذي يهدي للتي هي أقوم
ويهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.. وحسب هذا الكتاب عظمة وفخراً أنه كلام
الله ومعجزة خاتم الأنبياء وآياته تحمل دستور الإسلام الحنيف والرسالة الخالدة
المتكفلة بهداية البشر في جميع شؤونهم وأجيالهم لنيل السعادة الكبرى وبلوغ الغاية
القصوى في العاجل والآجل. يقول تعالى:
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا
﴾. لهذا وفي هذا العصر الذي يراد فيه لقافلة البشر أن تسير نحو
الأهداف المادية بعيداً عن القوانين الإلهية والشؤون المعنوية، صار القرآن وتعاليمه
هدفاً للمعاندين والمستكبرين الذين يرون الاقتداء به واتباع تعاليمه سبباً لإضعاف
سيادتهم على العقول والقلوب والحياة لذلك يسعون لإطفاء نوره.. والله متم نوره..
مظاهر هجران القرآن وآثارها:
ليس المقصود هنا الحديث عن هجر الطغاة والمتجبرين للقرآن الكريم فإن هؤلاء لم
يهجروا القرآن فحسب بل رفضوه وأنكروه ولم يؤمنوا به وبأي قيمة أو دور له في الحياة
وهؤلاء مصيرهم جهنم وبئس المصير، وإنما المقصود المؤمنين الملتزمين الذين عرفوا فضل
القرآن نظرياً، ولكنهم تركوه في مواقع العمل والتربية والأخلاق والعلاقات.. فكان
هجرهم مستهجناً يحز في النفس ويقتلها حسرة ولوعة فهؤلاء هجروا القرآن أي أنهم لم
يتصلوا به لأن الهجر لغة ضد الوصل وبما أن الاتصال بالقرآن له مراتب ومظاهر
فالانقطاع عنه وهجرانه يتنوع بحسبها وسأشير إلى أهمها مع آثارها طلباً للاختصار
ملفتاً إلى أن بعض الآثار السلبية لهجر القرآن تتضح عند ذكر فوائد الارتباط بالقرآن
الكريم.
* أولاً: هجر القراءة والتلاوة:
يقول تعالى:
﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا
﴾
﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ..﴾.
وعن الرسول صلى الله عليه وآله: "إذا أحب أحدكم أن يحدث ربه فليقرأ القرآن".
وعنه صلى اله عليه وآله: "من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين". ومع كل هذا
الترغيب بنص القرآن والسيرة الشريفة فإن ظاهرة هجر التلاوة للقرآن بارزة في مجتمعنا
حتى أصبحت قراءة القرآن توحي للبعض بوجود الجنائز والموتى أو أنها مختصة بالمآتم
وبعض المناسبات والأيام كشهر رمضان. إن للترتيل والتلاوة أثراً في الشخصية
الإيمانية فهي تولد رقة في المشاعر والأحاسيس وقوة في المواقف الصعبة. فمن صفات
المتقين أنهم يحزِّنون أنفسهم بالقرآن كما يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام:
"أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم"،
وجاء في الدر المنثور عن علي عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه وآله: "حركوا
به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة".
* ثانياً: هجر الاستماع
يقول تعالى:
﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ
﴾ والمقصود بالاستماع هو التوجه والقصد إلى السماع. من الآفات
الشائعة في أوساط بعض المسلمين أنهم إذا قرىء القرآن في مجالسهم لا يستمعون إليه
بل لا يسمعونه ويبقون غارقين في أحاديثهم.. بالرغم من الدعوة الواضحة إلى
الاستماع.. ومن آثار هذا النحو من الهجر ومن التعاطي مع القرآن الكريم الانقطاع عن
باب الرحمة الإلهية كما في ذيل الآية المذكورة آنفاً.. والرحمة الإلهية تتطلع إليها
قلوب المؤمنين وتتلهف للتعرض لها.. وعن الرسول صلى الله عليه وآله: "يدفع عن
مستمع القرآن بلاء الآخرة".. وعنه صلى الله عليه وآله: "من استمع آية من القرآن
خيرٌ له من ثبيرٍ ذهباً
﴿وثبير جبل كبير في اليمن﴾.
وهنا الخسارة واضحة لمن لا يستمع القرآن الكريم. ويقول تعالى:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ
ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾.
هذه هي حال المؤمنين الذين يستمعون القرآن.. يستمعونه بخشوع فتقشعر جلودهم وتلين
قلوبهم فيخرون للأذقان سجداً وبكياً. إن كل هذه الحالة المعنوية يفتقدها من لا
يستمع القرآن بوعي واهتمام وتفكر.
* ثالثاً: هجر التدبر:
يقول تعالى:
﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ﴾..
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ
﴾.. إن من أبسط حقوق القرآن الكريم وأوضحها هو التدبر في آياته
وكلماته وحروفه وسكناته فهو كلام
الله عزّ وجلّ.. كل حرف منه في محله المناسب وله
معنى لا يحصل في غيره.. مليء بالدرر والجواهر التي لا تخرج إلا بالتفكر والتدبر.
إن ترك التدبر فيه يؤدي إلى حرمان النفس من كنوزه المدفونة وعجائبه المخفية
وتعاليمه وحكمه وإرشاداته وتبقى ثقافته ومواعظه وكل ما فيه بعيداً عن الانتفاع
والاستفادة..
* رابعاً: هجر الاتباع والعمل:
يقول تعالى:
﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ﴾..
ولعل هذا النوع من أخطر الأنواع.. ولئن كان هجر الطواغيت والظلمة للقرآن قد فسرناه
بالإنكار للحقيقة القرآنية والرسالة الربانية، فإن هذا النحو من هجر العمل يقاربه،
عندما يحقق نفس النتيجة وهي تعطيله وإقصاؤه عن ساحة التأثير في الحياة فلقد نزّل
القرآن تنزيلاً على مدى عشرين عاماً أو أكثر وهذا التدرج في التنزيل كان له الأثر
الكبير في صناعة تاريخ المسلمين المشرّف حيث كان المسلمون الأوائل يتلقونه كما
يتلقى الجندي الأمر في المعركة، فيلتزم بهديه ويعمل بمضمونه. وإنهم كانوا إذا
تعلموا الآية من الرسول لا يتجاوزونها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل كما في
بعض الروايات. وهذا السر لم يستوعبه أعداء الإسلام آنذاك عندما قالوا: "لولا نزل
عليه القرآن جملةً واحدة". وهم يجهلون أن التدرج ينفع في التمكين من العمل والاتباع
وبالتالي يؤثر في تحقيق أثر القرآن التربوي، في مختلف شؤون الحياة.
مملكة البحرين/المحافظة الشمالية/مدينة حمد
النورس البحراني
2019-05-11 12:48:48
ماهي اهم التوصيات التي ترونها مفيدة لخلق جيل قراني مبارك يتحمل مسؤليات الدفاع عن القران والعترة ونسالكم الدعاء