آية الله جوادي الآملي
يعتبر القرآن أن الروح من عالم الغيب، والبدن من عالم الشهادة. وأن الأصالة للغيب الذي هو واسطة الفيض الإلهي الذي يستفيد منه من في عالم الشهادة. ولهذا فإن صفات الروح التي يقف على رأسها الاعتقاد تعتبر أصولاً، وأن تأمين حاجات البدن التي تقع في دائرة المسائل المالية والمادية (الاقتصاد) هو من الفروع، وإن كان الفكر الاقتصادي والتخطيط الدقيق لمسائله المعقدة يعتبران جزءاً من العلوم العالية، لكن كل علم يكتسب أفضليته من جهة حكايته عن المعلوم. ولهذا فإن معرفة الله والنبي والإمام والمعاد وغيرها تعتبر من الأصول العامة للإسلام لأنها تحكي عن عالم الغيب ودائرة الروح، وهذه العلوم تكتسب قيمتها العالية من المعلوم الذي تتحدث عنه.
والمقصود من هذه القيمة هو تلك القوة للدرجة الوجودية التي تعد من الأمور الحقيقية لا الاعتبارية، وإلا لتنزلت من حدود الحقيقة ودخلت ضمن العناوين الاعتبارية وتبدلت باعتبار المعتبرين والواضعين. والاقتصاد في ثقافة القرآن وتعاليمه وإن كان من العلوم الثانوية نسبة إلى التأسيسية، لكن الإسلام لم يكن يوماً غير مبال بالمسائل الفرعية والثانوية ولن يكون. إن المال وكل ما هو مفصول عن حقيقة روح الإنسان، ليس كمالاً له بل هو وسيلة لرفع احتياجاته الطبيعية.وحيث أن تأمين هذه الوسائل لا يحصل بدون تعب ومشقة، فإن مقداراً معقولاً من السعي الباطني ولذة التملك قد أودع في طبيعة الإنسان لا فطرته لكي يتحمل لأجل كسبها تلك الآلام والمشقات.
والقرآن الكريم مثلما يعتبر الكواكب والنجوم زينة قبة الفضاء لا زينة الإنسان:
﴿إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب﴾. فإنه يعدّ مروج الأرض وأشجارها زينة للأرض لا للإنسان:
﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزا﴾. أما الإيمان الذي هو من سنخ الروح فهو الزينة الحقيقية للإنسان.
﴿حبب إليكن الإيمان وزينه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان﴾. إن حبّ المال أكثر من جهته الآلية (كوسيلة)، وجمعه بما يزيد عن الحاجة مذمومان، ولكن إنتاجه لأجل تأمين سبل الرفاهية للآخرين والتخفيف عن ثقل التضخم والفقر في المجتمع مهم وممدوح. والقرآن الكريم يعتبر أن حب المال سبب لانتقاص الروح ولهذا يذمه:
﴿يحبون المال حباً جماً﴾. وإذا ذكره تحت عنوان الخير كقوله تعالى:
﴿إنه لحب الخير لشديد﴾ فذلك وصف للمال وليس للحب. إضافة إلى أن الآية لا تفيد مدح حب المال وفوق كل ذلك فسياق الآية يبين صفات الإنسان الكفور: ﴿إن الإنسان لربه لكنود وإنه لحب الخير لشديد وإنه على ذلك لشهيد﴾ وكذلك ما ورد في آية الوصية
﴿.. إن ترك خيراً الوصية﴾، لأن المال ضرورة بلحاظ الحياة الدنيا، ولا ربط له بالإنسان، إن امتلاك الثروة في الاقتصاد الإسلامي لا يعد كمالاً، بحيث يكون الثري كاملاً والمحروم ناقصاً.
وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل صلوات المصلين يقول في تحليله لقضية الثروة والحياة البسيطة التي كان يعيشها بعض الأنبياء كالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وموسى الكليم عليه السلام وداوود قارئ أهل الجنة عليه السلام وعيسى المسيح عليه السلام: "فلينظر ناظر بعقله، أكرم الله محمداً بذلك أم أهانه، فإن قال أهانه فقد كذب والله العظيم بالإفك العظيم. وإن قال أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس إليه..". فالمال زينة الدنيا وليس فخاراً للإنسان. وحبه بالمقدار المعقول في حدود حب وسيلة الصلاح لا أكثر، وليس في حدود الهدف. وكذلك فإن حب الثروة وجمع المال مذموم، والرغبة في القناطير المقنطرة تكون سبباً للصد عن سبيل الله وتغلق الباب على تعالي الروح. وكذلك فإن مجموع أموال الدنيا يساوي مجموع حاجات الناس. فاحتكارها واكتنازها من قبل شخص أو أشخاص يخالف النظام النقدي في الإسلام. والتأسي ينبغي أن يكون بالأنبياء في بساطة عيشهم، والكمال في الهجرة من التكاثر إلى الكوثر الذي هو خير نفسي لا نسبي، وخير واقعي لا اعتباري أو زعمي و...
إن انتصار المسلمين في صدر الإسلام وما بعده كان مرهوناً لمجموعة من العوامل التي من ضمنها القناعة في العيش كما نشاهد من أصحاب الصفوة من المهاجرين والمضحين المؤثرين من الأنصار. والتحليل النهائي لمعركة الإسلام ضد الكفر التي انتهت بالظفر والنصر للكوثر على التكاثر والإيثار على الاستئثار والزهد على الجشع والبساطة على التعقيد في العيش، وباختصار علو كلمة الله على كل الكلمات. إن الخطوط العامة للاقتصاد الإسلامي مبنية على أساس القسط والعدل اللذين يرسمان كافة الخطوط الدينية. فهما يحدّان من إفراط المبتلين بتجميع المال والثروة لكي لا يقعوا في فخ الكثرة والجشع والإسراف والترف والطغيان والشح والولع والطمع، وكذلك يمنعان من تفريط المبتلين بالفقر المالي لكي لا يقعوا في آلام السغب والمضيقة والجوع والحرمان والتبعية والمذلة. وإنزال القانون العام:
﴿كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم﴾ يأخذ عهداً على الجميع وبالأخص على العلماء الصالحين والملتزمين والمفسرين المؤمنين والفقهاء الزاهدين لكي يقفوا مقابل الظلم والحيف من قبل الأثرياء على الفقراء، ويمنعوا من افتراء المستغلين وإغراف المحرومين، حتى تجري الأموال العامة بين جميع الناس وليس بيد أشخاص محدودين: "لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء إلا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها...".
فمن هذا الخطاب العلوي يُعلم أن الجميع مسؤولون عن تنظيم القسط الاقتصادي، فمن يستطيع بقوة القيادة وولاية الأمر، ومن لا يقدر على القيادة تسقط عنه ولاية المسلمين بقيام غيره بالكفاية. فالحضور في ساحات العمل ونصرة القيادة وتولّي ولي المسلمين واجب عليه وإذا كان هذا الشرط بالنسبة لولي المسلمين على الفرض شرط الوجوب لا الواجب وإذا كان هذا الشرط بالنسبة لولي المسلمين على الفرض شرط الوجوب لا الواجب ومقدمة حصولية لا تحصيلية، فإنه بالنسبة للحاضرين والمناصرين شرط واجب لا وجوب، وأمر تحصيلي لا حصولي. إن أصل هذا المطلب الذي يتحدث عن القدرة والعوز كامتحانين إلهيين لا يعدوان إلى أصل الكرامة أو الإهانة يمكن استنباطه من آيات سورة الفجر بقوله تعالى:
﴿أما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن. وإذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا...﴾. فتصور المبتلى بقدرة المال وهو باطل يؤدي إلى نشوء الحب الشديد للمال في نفسه، فلا يقوم بإطعام المساكين والمحتاجين بشوق ورغبة كما جاء في تتمة الآيات. إن ما ورد حول أهمية المال له جهة توصيفية وليست قانونية. كما نشاهد في كل ما ورد حول خطر الفقر المالي.
فقد روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "بارك لنا في الخبز، ولا تفرّق بيننا وبينه فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا". فليس لهذه القضية إلا جهة التأثير الطبيعي المادي (وليس الجهة العليّة). حيث أنها ناظرة إلى مقدار تحمل الناس المتوسطين، أما الأوحدي من الرجال الإلهيين، سواء في عصر صدر الإسلام أو عصرنا، فإنه ينصر الإسلام متحملاً جميع أنواع الفقر والفاقة ويطرد أعداء الإسلام المعتدين عن ثغور الوطن الإسلامي ويحفظ كيان القرآن والعترة بعناية الله من هموم الغرباء..