مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

التعرّض للرموز والمقدّسات

الشيخ محمود عبد الجليل

 

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13).

الاختلاف بين الناس أمر طبيعيّ، والحكمة منه التعارف والتكامل وبناء المجتمعات، فيما يمثّل هذا الاختلاف اختباراً كبيراً لعباد الله، الذين يجعلون معيار التفاضل هو ﴿أَتْقَاكُمْ﴾. إذاً، كيف تتعامل أمّة ﴿ أَتْقَاكُمْ﴾ مع مظاهر الاختلاف بين الناس، والتي قد يُراد منها "عمداً" استدراج المؤمن إلى غير حظيرة "التقوى"؟

يحاول هذا المقال الإطلالة على حالة متولّدة من عدم كبح اللسان، لكن في دائرة أخطر، عندما يتعرّض هذا اللسان الجارح إلى الرموز الدينيّة، وإهانة مقدّسات الآخرين، والنيل معتقداتهم على اختلافها.

•الحثّ الشرعيّ على المداراة
إنّ أبسط إطلالة على الشريعة الإسلاميّة والروايات الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة عليهم السلام ، يُلحظ خلالها واحد من العناوين الضروريّة التي أُمرنا بها لصيانة المجتمعات، وهي مداراة الناس، فعن حذيفة بن منصور قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إنّ قوماً من الناس قلّت مداراتهم للناس فأُنفوا(1) من قريش. وأيمُ الله ما كان بإحسانهم بأسٌ، وإنّ قوماً من غير قريش حسُنت مداراتهم فأُلحقوا بالبيت الرفيع"، قال: ثمّ قال: "من كفَّ يده عن الناس، فإنّما يَكُفُّ عنهم يداً واحدة، ويكُفُّون عنه أيديَ كثيرة"(2).

إذا كانت قلّة مداراة الناس مبغوضة عند المعصومين عليهم السلام ، فكيف بالسُّباب والشتم والنيل من المقدّسات؟!

•الفرق بين السباب والنقد واللعن
السُباب كلام يدلّ على تحقير أحد أو نسبته إلى النقيصة والتعيير، ويدخل تحته كلُّ ما يوجب الإهانة أو الهتك من توصيفٍ يقتضي التحقير أو قذفٍ أو غير ذلك من موجبات الإهانة والهتك، وليس منه النسبة إلى الخطأ في الرّأي أو العملِ، ولا النّسبة إلى الضلال في الدّين إن صدر عن مخالف في الدّين. والنقد هو الدراسة الموضوعيّة لحياة شخصٍ، وبيان ما له من الفضل والكرامة، أو ما اقترف من أفعال وأقوال، فيثني عليه تارةً ويذمّه أخرى.

أمّا اللّعن فهو نوع من أنواع البراءة من الآخر، ويأتي بمعنى الطرد والإبعاد من رحمة الله، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (البقرة: 159). وقد يكون اللعن من السبِّ والشتيمة كما لو كان بغير موجبٍ شرعيّ، ولم يُفهم منه الدعاء عُرفاً، وإنّما فُهِمَ منه التوهين والازدراء.

•لماذا التعرّض للرموز الدينيّة؟
لو دقّقنا في أسباب السبِّ والشتم، لعرفنا أنّ السبب هو الابتلاء بالأمراض النفسيّة والأخلاقيّة؛ من قبيل عقدة الدونيّة، والحقد، والحسد، والضغينة، والعصبيّات المقيتة التي قد يحملها الإنسان في قلبه تجاه الآخرين، بالتالي فإنّه يُترجم أمراضه ولو بشكلٍ غير شعوريّ إلى سباب وشتم للآخرين أو لرموزهم ومقدّساتهم. وأحياناً تكون بإملاء من جهات تحريضيّة، ترغب في زرع الفتنة واندلاع الخلافات.

•آثار إهانة المقدّسات
1- الحقد والعداوة والضغينة: من البديهيّ أنّ سبّ شيخ عشيرة أو رئيس دولة أو رمز مقدَّس عند الآخرين، إن لم يستطع أحد أن يردّ السباب عنه، فإنّه سيختزن في داخله حقداً هائلاً، وسيغلي الحقد في قلبه كالمرجل وسينتظر أوّل فرصة لكي ينتقم انتقاماً مروّعاً، فعن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: "إنّ رجلاً من تميم أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: لا تسبُّوا الناس فتكسبوا العداوة لهم"(3).

2- الفتنة: من الواضح أنّ السبّ والسبّ المضادّ قد يُثيران الفتنة بين الأطراف المتسابّة، وقد يوقعان في سفك الدماء وانتهاك الأعراض، بينما نلاحظ أمير المؤمنين عليه السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبُّون أهل الشام أيّام حربهم بصفِّين: فقال: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، فقلتم مكان سبِّكم إيّاهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به"(4).

3- سبّ أولياء الله: من المعلوم أنّ إساءة شخصٍ إلى رمز من رموز الآخرين، ستجرّئ الآخرين على سبِّ رموزه ودينه، فعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "يا ابن أبي محمود، إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا، وجعلوها على ثلاثة أقسام؛ أحدها الغلوّ، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفَّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيّتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهـــم ثلبونا بأسمائنا، وقـــد قال الله عزَّ وجلّ: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 108)"(5).

4- تفكُّك عناصر المجتمع: في الوقت الذي يتطلَّب فيه تجميع عناصر القوّة في المجتمع الإسلاميّ في مواجهة مخطّطات الأعداء، نجد أنّ السباب والشتيمة للآخرين يقدّمان خدمة مجّانيّة للأعداء.

5- المخالفة لتعاليم المعصومين عليهم السلام: عن سليمان بن مهران قال: دخلت على الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام وعنده نفرٌ من الشيعة وهو يقول: "معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، وقولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكُفُّوها عن الفضول وقُبح القول"(6).

6- مخالفة الحكم الشرعيّ: وهو الحكم الصادر عن المراجع الدينيّة ووليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ دام ظله، إذ وجّه إليه جمع من علماء الإحساء استفتاءً جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، سماحة آية الله العظمى السيّد عليّ الخامنئيّ الحسينيّ دام ظله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تمرّ الأمّة الإسلاميّة بأزمة منهج يؤدّي إلى إثارة الفتن بين أبناء المذاهب الإسلاميّة، وعدم رعاية الأولويّات لوحدة صفّ المسلمين، ما يكون منشأ لفتنٍ داخليّةٍ وتشتيت الجهد الإسلاميّ في المسائل الحسّاسة والمصيريّة، ويؤدّي إلى صرف النظر عن الإنجازات التي تحقّقت على يد أبناء الأمّة الإسلاميّة في فلسطين ولبنان والعراق وتركيا وإيران والدول الإسلاميّة، ومن إفرازات هذا المنهج المتطرّف، طرح ما يوجب الإساءة إلى رموز ومقدّسات أتباع الطائفة السنيّة الكريمة بصورة متعمّدة ومكرّرة. فما هو رأي سماحتكم في ما يطرح في بعض وسائل الإعلام من قِبل بعض المنتسبين إلى العلم من إهانة صريحة، وتحقير بكلمات بذيئة ومسيئة لزوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمّ المؤمنين السيّدة عائشة، واتّهامها بما يخلّ بالشرف والكرامة لأزواج النبيّ أمّهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن؟ لذا نرجو من سماحتكم التكرُّم ببيان الموقف الشرعيّ بوضوح، لما سبّبته الإثارات المسيئة من اضطراب وسط المجتمع الإسلاميّ، وخلق حالة من التوتّر النفسيّ بين المسلمين من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام وسائر المسلمين من المذاهب الإسلاميّة، علماً أنّ هذه الإساءات استغلّت وبصورة منهجيّة من بعض المغرضين ومثيري الفتن في بعض الفضائيّات والإنترنت لتشويش وإرباك الساحة الإسلاميّة وإثارة الفتنة بين المسلمين. ختاماً، دمتم عزّاً وذخراً للإسلام والمسلمين"(7).

فجاء جواب الإمام الخامنئيّ دام ظله: "بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. يحرّم النيل من رموز إخواننا السنّة، فضلاً عن اتّهام زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما يخلّ بشرفها، بل هذا الأمر ممتنع على نساء الأنبياء، وخصوصاً سيّدهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، موفّقين لكلّ خير".

•فلنفوّت الفرصة على الأشرار
إنّ أسلوب ردّ الشتيمة بالشتيمة أو تناول بعض المقدّسات بالسبّ والهتك، هو -فضلاً عن كونه ليس مجدياً- أسلوب منحطّ، ولا ينبغي مجاراة أولئك الذين لا يجدون سُلّماً للوصول إلى غاياتهم إلّا من خلال الإساءة إلى رموز الآخرين والتعرّض للمقدّسات، عسانا بذلك نفوِّت الفرصة على المريدين بالأمّة شرّاً.

1.بمعنى الانتفاء.
2.الكافي، الكليني، ج2، ص116.
3.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج12، ص297.
4.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج32، ص447.
5.عيون أخبار الرضا عليه السلام، الصدوق، ج1، ص271.
6.وسائل الشيعة، (م.س)، ج12، ص189.
7.جمع من علماء ومثقّفي الأحساء، بتاريخ: 4 شوال 1431هـ.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع