السيد سامي خضرا
ظاهرة "المزاجيّة" آخذة بالانتشار والتمكُّن، وأخطر ما
فيها تبريرها وتشريعها بعد أن جاءتنا مع الثقافة المستوردة والحرب الناعمة.
وبعض الناس يحاول أن يفرض مزاجه على المجتمع، بحيث ينفّر المجتمع منه ويقول: هذا هو
طبعي فَمَنْ قَبِل بي فبها، ومن لم يقبل فله ذلك، وليس مستعداً لمجاملة أو مداراة
أحد.
بينما أوصانا الإسلام بمبدأ المداراة صيانةً لحسن العلاقات الاجتماعيّة واستمراريّة
الحدّ الأدنى من الإلفة والتعاون، قال الله جلَّ جلاله:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت: 34).
ومن هنا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "خالطوا الناس مخالطة إن مِتُّم
معها بَكَوا عليكم وإن عشتم حَنُّوا إليكم"(1).
*المداراة المطلوبة
ومن فنون التخالط الاجتماعي وتسيير أمور الأفراد والجماعات، المراعاة والمداراة
والحرص على حسن التعامل والتخاطب والتجاور والتعاون... بعيداً عن أجواء التحدّي
والاستفزاز.
ويُقصد بالمداراة حسن الخلق وحسن المعاشرة مع الناس وحسن صحبتهم واحتمال أذاهم وعدم
مجابهتهم بما يكرهون والرفق بهم...
والملاينة أي ملاينتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنك، وداريتُ الرجل أي لاينته ورفقت
به.
قال تعالى:
﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا
لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (طه: 44). ومنه الحديث: "رأس العقل بعد الإيمان بالله
مداراة الناس"(2). حيث إنّ عقول الناس مختلفة ومتفاوتة فمداراة الناس أن تتعامل
معهم على قدر عقولهم.
فنحن نعيش في أحياء وقرى ومراكز عمل تتنوّع فيها أمزجة الناس كثيراً لأسباب شتّى
وظروف مختلفة، ومصلحة الجميع في التجاوز والرأفة والتحمّل وحسن الظن... ويُترجم ذلك
بالمداراة.
وقد يشتبه على البعض فيقول إن هذا نوع من أنواع النفاق، وليست المداراة من النفاق،
لأن النفاق هو أن يكون الإنسان ذا وجهين، يلقى صاحبه بوجه ويغيب عنه بوجه... بينما
المداراة هي اللين مع الناس.
*المداراة ليست مداهنة
وقد يقول قائل إنَّ المداراة مداهنة وكذب و"ثعلبة" حيث المراوغة على حساب المبدأ!
والفرق كبير بينهما: فالمداهنة إظهار خلاف ما يضمر، والإدهان الغش، ودهن الرجل إذا
نافق(3).
وفي (التوقيف على مهمات التعاريف): المداهنة أن ترى منكراً تقدر على دفعه فلم
تدفعه، حفظاً لجانب مرتكبه، أو لقلّة مبالاة بالدين.
بينما المداراة على خلاف كل هذا كما تقدّم أعلاه.
*أسس المداراة
وللمداراة، كما سائر الصفات، أسس وقواعد تُراعى حتى تستقيم، ومنها:
1- الكلام مع الناس على قدر عقولهم: أن يتحدّث المكلّف بكلام مفهوم من قبل
الجميع بلا حاجة إلى استخدام العبارات الغامضة، والمصطلحات غير الواضحة... فيجعل
حاجزاً بينه وبين المخاطبين أو المستمعين، وكما كان يفعل سابقاً منذ عقود بعض أصحاب
العقائد والأفكار المستوردة عندما خاطبوا الناس بلغة ومصطلحات ماركسية اشتراكية
أممية بعيدة عن تاريخنا وأدبياتنا وثقافتنا. فالمخاطبة على قدر العقول شكلاً
ومضموناً ترفع الهجنة والحواجز.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم
الناس على قدر عقولهم"(4).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "أحسن الكلام ما زانه حُسنُ النظام، وفهمه الخاص
والعام"(5).
2- مراعاة ظروف الناس: عدم تحميل الناس تكاليف وأعباءً فوق طاقتهم (مراعاة
لأحوالهم وظروفهم).
والمقصود بهذه القاعدة، الناحية العملية، حيث إن إرهاق المحيطين بالتكاليف يضعهم
تحت حرج شديد، وعجز دائم، وليس هذا من الرأفة والمداراة في شيء.
فالعاملون معنا والمحيطون بنا منهم الضعيف والمريض والمحدود في علمه وخبرته.
3- الاختصار وعدم التطويل: ومن المداراة اختصار الكلام وعدم التطويل المؤدي إلى
الملل.
حيث يهوى البعض الكلام بلا حساب أو مناسبة وكأن المطلوب هو الإسماع فحسب، وهذا
مخالف لمداراة الناس تماماً.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الكلام كالدواء قليله نافع وكثيره قاتل"(6).
4- كشف الحقائق: ومن المداراة كشف الحقائق في حال التشكيك بشخصك.
ففي كل مجتمع وبيئة حُسَّاد وحاقدون ومتآمرون وخونة وأعداء وصغار النفوس وهواة
الفتنة والمستخفّون بالدين.. ولا يُجابه هؤلاء ولا يُدفعون إلّا بإظهار الحقائق كما
هي والبرهان والدليل والبيِّنة... وليس السُّباب والشتائم والغموض والشُّبهات.
عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لمالك الأشتر: "وإن ظنّت الرعيّةُ بك
حيفاً، فأصحِر لهم بعُذرك، واعدل عنك ظنونَهم بإصحارك، فإن تلك رياضةٌ منك لنفسك،
ورفقٌ منك برعيتك، وإعذارٌ تبلغ فيه حاجتَك من تقويمهم على الحق"(7).
5 - المعاملة بالحسنى: وهذه القاعدة هي من أهم المبادئ العالمية اليوم وفي
التاريخ، فإن كان الطرف المقابل محسناً جازيناه وإن كان مُسيئاً وعظناه وأيقظناه.
فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول في وصيّته لولده محمد ابن الحنفية:
"وأحسِنْ إلى جميع الناس كما تحبّ أن يُحسَن إليك، وارْضَ لهم بما ترضاه لنفسك،
واستقبحْ من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وحسِّنْ مع الناس خُلقك حتى إذا غبتَ عنهم
حنّوا إليك، وإذا مِتّ بَكَوْا عليك، وقالوا: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا تكنْ
من الذين يقال عند موته الحمد لله رب العالمين، واعلمْ أنّ رأس العقل بعد الإيمان
بالله عزَّ وجلّ مداراةُ الناس، ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف مَن لا بدّ مِن
معاشرته حتى يجعلَ اللهُ إلى الخلاص منه سبيلاً، فإني وجدتُ جميعَ ما يتعايش به
الناسُ وبه يتعاشرون ملءَ مكيالٍ ثلثاه استحسان وثلثه تغافل"(8).
*يسيطرون على الناس بالأخلاق
وكثير من أتباع المبادئ الضالّة يسيطرون على الناس من خلال المداراة فيلتزمون
بَشاشة الوجه ورَحابة الصدر واحتضان ورعاية الآخرين، يَعُودونهم في مرضهم
ويساعدونهم في حاجاتهم الاجتماعية حتى يجذبوهم إليهم، فإذا جذبوهم عاطفياً، فعند
ذلك تكون الطريق ممهّدة لأن يجذبوهم عقائدياً وفكرياً وسياسياً.
*الأخلاق دين أئمّتنا عليهم السلام
وأئمتنا عليهم السلام هداتنا في ذلك، حتى إنّ الإمام الحسن عليه السلام كان راكباً
ذات يوم على بغلته وحوله أصحابه وإخوانه وأبناؤه وأهل بيته، ومرّ شخص شامي وسأل: من
هذا؟ فقيل له: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
فبدأ يسبّه ويشتم أباه بدون مناسبة، حتى سار إليه المحيطون بالإمام عليه السلام
ليقتلوه، لكن الإمام عليه السلام نهاهم قائلاً: رويداً، والتفت إلى الشامي، وقال
له: أظنُّك غريباً فإن كنت جائعاً أطعمناك، وإن كنت عطشان سقيناك، وإن كنت عرياناً
كسوناك، وإن كنت فقيراً أغنيناك، يا غلمان اذهبوا به إلى المنزل فأحسنوا مطعمه
ومشربه وملبسه. فذهبوا به والرجل لا يُصدّق ما يرى ويسمع، وبعد أن دخلَ بيتَ الإمام
عليه السلام وأكرموه، ووجد الخُلُق العظيم وحسنَ الوفادة، خرج وهو يقول: الله أعلم
حيث يجعل رسالته(9).
ويمكننا تطبيق هذا الأسلوب على كثير من نشاطاتنا الفكرية والعَقَديّة
والاجتماعيّة...
*في الجانب العَقَدي
وخاصة في الاختلاف المذهبي، حيث أسلوب السبّ والشتم مع الآخرين، بسبب ما يختزنه
الإنسان من العداوة والرفض للأشخاص الذين يحترمهم الآخرون، فتظهر الانفعالات بطريقة
السبّ واللّعن، أو ما إلى ذلك.
وهناك أسلوب آخر، وهو أن تعبّر له، بأسلوب هادئ... وهذا الأسلوب نستوحيه من أمير
المؤمنين عليه السلام، فعندما سمع الإمام عليه السلام، وهو في طريقه إلى (صفين)،
جماعة من جيش العراق يسبّون أهل الشام، وقف فيهم خطيباً، وقال لهم: "إني أكره
لكم أن تكونوا سبّابين ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوبَ في القول
وأبلغَ في العذر"... ثم يتابع ليقول: "وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهمّ احقن دماءَنا
ودماءَهم، وأصلِح ذاتَ بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرفَ الحقَّ من
جَهِلَه، ويرعوي عن الغي والعدوان مَن لَهِجَ به"(10).
1- نهج البلاغة، حِكَم أمير المؤمنين عليه السلام، ج4، ص40.
2- الوافي، الفيض الكاشاني، ج26، ص236.
3- لسان العرب، ابن منظور، ج13، ص162.
4- الوافي، الكاشاني، ج1، ص107.
5- عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الواسطي، ص124.
6- م.ن، ص67.
7- نهج البلاغة، من عهده إلى مالك الأشتر.
8- الوافي، م.س، ج26، ص236.
9- الأنوار البهيّة، الشيخ عباس القمّي، ص89.
10- نهج البلاغة، من كلام الإمام علي عليه السلام، ج2، ص185.