الأستاذ الشهيد مرتضى مطهّري
كان بحثنا يدور حول العوامل التي أشارت إليها التعاليم الإسلامية على أنها عوامل لإصلاح النفس والتربية الإسلامية. وقد ذكرنا أن في هذا الدين طرقاً لتربية الإنسان لا توجد في الأديان أو المذاهب الأخرى. وفي الحلقة السابقة بحثنا حول موضوع يكثر الحديث عنه في المتون الإسلامية، بدء من القرآن الكريم ومروراً بكلمات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حتى سائر الأئمة عليهم السلام، وهو موضوع محاسبة النفس. ونحن عندما نراجع كتب الأخلاق الإسلامية، من أقدمها إلى أحدثها نجد الاغتناء الكبير بمسألة المراقبة والمحاسبة.
الموضوع الآخر الذي يتضمن جانباً تربوياً وقد ذكر في التعاليم الإسلامية كثيراً هو التفكر. وقد أشير إليه في الآثار الإسلامية على أنه عبادة: "تفكّر ساعة خير من عبادة سنة"، "تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة"، "تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة"، ولا يوجد اختلاف في هذه الروايات وإنما هي إشارة إلى أنواع التفكر المختلفة.
* ثلاثة أنواع من العبادة
فالتفكر عبادة. ولهذا نحن نشاهد ثلاثة أنواع من العبادات: العبادة البدنية كالصلاة والصوم، والعبادة المالية كالزكاة والخمس والإنفاق بشكل عام، والعبادة الفكرية (العبادة الروحية الصرفة) التي تسمى بالتفكر. والتفكر أفضل أنواع العبادات وما أشير إليه في الرواية بأن التفكر خير من عبادة ستين أو سبعين سنة يبين قيمة التفكر بالنسبة لسائر العبادات. فساعة من التفكر يمكن أن تفوق ستين سنة من العبادة البدنية بدون تفكر. ولا ينبغي هنا أن نخطئ في فهم المقصود من الرواية فنبدل العبادة بالتفكر لأنه أفضل منها، كلا، فكل عبادة مطلوبة ولها دورها المميز، المقصود هو بيان ضرورة هذا الأمر. والآن، في أي شيء تفكر؟ بالطبع، نحن لا نحد التفكير، فيوجد لدينا أنواع من التفكر أشارت إليها الروايات والمتون الإسلامية أيضاً.
*التفكر في عالم الخلقة
النوع الأول: التفكر في عالم الخلقة لأجل معرفة الله، وفي الواقع ليس هذا التفكر إلا عبارة عن كشف هذا العالم لمعرفة الله. ونجد هذا الأمر قد تكرر في القرآن الكريم كثيراً:
﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض﴾. (آل عمران/190-191) ولا شك أن الإنسان إذا تفكر وتأمل في صنع العالم والنظام الجاري في أجزائه ودقائق مخلوقاته، وكأن هدفه من هذا التأمل والتدقيق كشف أسرار العالم فإنه سوف يقترب من الحقيقة أكثر ويعرف الله أكثر. فهذا علم وعبادة أيضاً.
* التفكر في التاريخ
من الأنواع الأخرى التي اعتنى بها القرآن المجيد التفكر في التاريخ والتفكر في المصير والاعتبار بالماضي وما جرى على الماضين. وقد ذكر القرآن الكريم قصصاً وحكايات نسميها اليوم بالتاريخ، هذا مع الالتفات إلى أن مقصد القرآن من ذكر التاريخ ليس إلا تلك الدروس والعبر التي تؤدي إلى قطف ثمرات الفكر:
﴿فاقصص القصص لعلهم يتفكرون﴾. (الأعراف/176)
* تفكر الإنسان بنفسه
وأيضاً هناك نوع من التفكر الذي يعد عبادة عظيمة، ونحن نريد أن نركز عليه في هذا البحث أكثر، وهذا التفكر هو ما يتعلق بنفس الإنسان، وهو ينقسم إلى قسمين: فأحياناً يكون الإنسان بحد ذاته موضوعاً علمياً للتفكر، وهذا يصبح تابعاً للنوع الأول. وأحياناً يفكر الإنسان بأعماله ومصيره ومستقبله، حتى لا يسير في هذه الحياة خبط عشواء. وهذا التفكر يتبع القسم الثاني. هل أن الجبر الاجتماعي حاكم على الإنسان؟ قد يصاب الإنسان بحالة يجد فيها نفسه تابعة للتيارات المتصادمة فكل سيل يجره، وكل موج يقذفه. ولا شك أن المجتمع يشبه السيل الذي يجر الأفراد إلى هنا وهناك ولكن هذا العامل لا يتحول إلى جر مطلق. فالإنسان يبقى قادراً على اتخاذ القرارات الخاصة به والتي تنبع من ذاته، وقد تكون هذه القرارات مخالفة للتيار الجاري، أو قد تؤثر عليه بتحول مسيره. ونحن نعلم أن التعاليم الإسلامية تقوم على هذا الأساس وإلا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسؤولية والتكليف والجهاد وغيرها لا يصبح لها أي معنى، بل تضيع عندئذٍ معاني الثواب والعقاب. ولو كان الإنسان مجبراً، ومغلول اليدين أمام المجتمع لانتفت معاني القبح والحسن والثواب والعقاب، سواء في الدنيا أم في الآخرة.
*التفكر شرط أساسي للسيطرة على الذات والمجتمع
لكي يقدر الإنسان على السيطرة على نفسه ومجتمعه أو على الأقل أن لا يكون مستسلماً للأوضاع المحيطة به يجب عليه أن يكون مفكراً. وهذا الأمر الأخلاقي يشبه موضوع "محاسبة النفس". فكما أن الإنسان ينبغي أن يعطي نفسه فرصة يومية ينقطع فيها عما سوى نفسه ويرجع إليها ويفكر في أحوالها ومصيرها والأعمال التي يجب أن تقوم بها وما جرى عليها وما تعاشر وما تقرأ. فإذا قرأت كتاباً ماذا استفدت منه؟ وما هو الأثر الذي تركه في نفسي؟ هل كان أثراً جيداً أم سيئاً؟ ويكون هذا التفكر عاملاً لانتقاء الكتاب الأفضل في المستقبل. لأن الإنسان لا يملك فرصة ليقرأ كل الكتب في العالم، وعليه أن يختار بشكل جيد. وينقل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "العمر قصير والعلم كثير، فخذوا من كل علم طريفه ودعوا فضوله". ولهذا، فإن الإنسان، حتى ولو في مجال اختيار الكتاب، يجب أن يختار. وفي الرفقة والعشرة يجب أن يختار. ولا معنى للاختيار بدون التفكر. كيف يمكنه أن يميز الجيد من السيئ، وكيف يمكن أن تكون قراراته صائبة. كل ذلك لا يتحقق إلاَّ بالتفكر في لوازم العمل وردات الفعل والآثار والنتائج.
*النظر إلى العواقب
جاء رجل ذات يوم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسأله: يا رسول الله! عظني. فسأله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هل تفعل ما أقوله لك؟ فقال: بلى. وكرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا السؤال عليه ثلاث مرات. وفي كل مرة يقول الرجل بلى يا رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندئذٍ: "إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته". و"التدبر" في اللغة هو النظر إلى نهاية الشيء وعاقبته وخلفيته وعدم الاقتصار على رؤية ظاهره. فلكل عمل وجه وباطن. وفي أغلب الأحيان يقتصر الإنسان في نظره على الظاهر. ولكن ما أكثر أن يكون الباطن مغايراً للظاهر فالتدبر في العواقب هو أن يفكر الإنسان في باطن الأمر قبل القيام به. ويوجد في نهج البلاغة جملة لأمير المؤمنين عليه السلام يقول فيها: "إن الفتن إذا أقبلت شبَّهت وإذا أُدبرت نَبّهت". وهذا كلام عجيب يشير فيه مولى المتقين إلى أن الفتنة عندما تقبل تكون كالغبار الذي يحجب الرؤية أو كالظلام الدامس. ففيها تنتشر الشائعات، وتكثر الأكاذيب، وتزداد الانفعالات، ويختار الإنسان في اتخاذ الحكم والموقف. ولكن بمجرد أن تنطفي الفتنة حتى ينجلي الغبار ويشرق النور فتصبح الأمور واضحة للرائي.
* التعود على التفكر
لهذا، فإن أحد العوامل المفيدة لإصلاح النفس والتربية في الإسلام التعود على التفكر. يجب أن يصبح التفكر عادة عند الإنسان. بمعنى أن يكون التفكر حاكماً على عمل الإنسان قبل القيام به. وهذا الأمر من الناحية الأخلاقية يشبه محاسبة النفس كما ذكرنا سابقاً. وقد ورد في الحديث: "كان أكثر عبادة أبي ذر التفكر". (بحار الأنوار/ج71) فالتفكر يضيء طريق الإنسان. والعبادة بدون تفكر يمكن أن تكون لغواً وعملاً عشياً...