إنّ الاعتدال قائماً في الصلاة، هو مثولٌ بالشخص والقلب بين يدي الله عزّ وجلّ. فليكن رأسك الذي هو أرفع أعضائك مطرقاً مطأطأً منكّساً، وليكن وضع الرأس عن ارتفاعه تنبيهاً على إلزام القلب التواضع والتذلّل والتبرّي عن الترؤّس والتكبّر، وليكن على ذكرك ها هنا خطر القيام بين يدي الله عزّ وجلّ في هول المطّلع عند العرض للسؤال.
•قيامٌ بين يدي الله
اعلم، في الحال، أنّك قائم بين يدي الله عزّ وجلّ، وهو مطّلع عليك، فقم بين يدَيه قيامك بين يدي بعض ملوك الزمان وإنْ كنت تعجز عن معرفة كنه جلاله، بل قدّر في دوام قيامك في صلواتك أنّك ملحوظ ومرقوب بعين كالئةٍ (ناظرة) من رجل صالح من أهلك، أو ممّن ترغب في أن يعرفك بالصلاح، فتهدأ عند ذلك أطرافك، وتخشع جوارحك، وتسكن جميع أجزائك؛ خيفةَ أن ينسبك ذلك العاجز المسكين إلى قلّة الخشوع. وإذا أحسست من نفسك التماسك عند ملاحظة عبد مسكين، فعاتب نفسك، وقل لها: إنّك تدّعين معرفة الله وحبّه، أفلا تستحين من تجرّؤك عليه مع توقيرك عبداً من عباده؟ أوَتخشين الناس ولا تخشينه، وهو أحقّ أن يُخشى؟
•الله مقبلٌ على العبد ما لم...
وأمّا دوام القيام، فهو تنبيه على إدامة القلب على الله تعالى على نعت واحد من الحضور. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله مقبل على العبد ما لم يلتفت"(1). كما يجب حراسة السرّ عن الالتفات إلى غير الصلاة، فإن التفت إلى غيرها، فذكّره باطّلاع الله تعالى عليك، وقبح التهاون بالمَنَاجي مع غفلة المُناجي ليعود إلى التيقّظ، والزم الخشوع الباطنيّ فإنّه ملزوم الخشوع ظاهراً، وكلّما خشع الباطن خشع الظاهر. قال صلى الله عليه وآله وسلم وقد رأى مصلّياً يعبث بلحيته: "ما هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه"(2).
ومن يطمئنّ بين يدي غير الله تعالى خاشعاً ثمّ تضطرب أطرافه بين يدي الله تعالى، فذلك لقصور معرفته عن جلال الله، وعن اطّلاعه على سرّه وضميره وتدبّر قوله تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ*وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ (الشعراء: 218- 219).
•القيام إشارة إلى التوحيد الأفعالي
اعلم، أنّ أهل المعرفة يرون "القيام" إشارة إلى التوحيد الأفعاليّ وضعاً؛ لأنّ القيام إشارة إلى قيام العبد بالحقّ ومقام قيّوميّة الحقّ، وهو التجلّي بالفيـــض المقدّس والتجلّي الفعليّ. وتظهر في هـــذا المقام فاعليّة الحقّ وتستهلك جميع الموجودات في التجلّي الفعليّ، وتضمحلّ تحت كبريائه الظهوريّ. والأدب العرفانيّ للسالك في هذا المقام، أن يتذكّر بهذه اللطيفة الإلهيّة ويترك التعيّنات النفسيّة ما استطاع، ويذكر للقلب حقيقة الفيض المقدّس، ويوصل إلى باطن القلب نسبة قيّوميّة الحقّ وتقوّم الخلق بالحقّ، فإذا تمكّنت هذه الحقيقة في قلب السالك، تقع قراءته بلسان الحقّ، ويكون الذاكر والمذكور هو الحقّ، وينكشف له معنى "أنت كما أثنيت على نفسك"(3)، و"أعوذ بك منك"(4) ببعض مراتبه، ويجد قلب العارف بعض أسرار الصلاة.
•النظر إلى محلّ السجود
إنّ في النظر إلى محلّ السجود أثناء القيام، (وهو التراب أي النشأة الأصليّة، وخضوع الرقبة وتنكيس الرأس، وهما من لوازم الخضوع) إشارةً إلى الذلّ والفقر الإمكانيّ للعبد، والفناء تحت عزّ كبرياء الله وسلطانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (فاطر: 15).
•آداب القيام
1- أن يرى السالك نفسه حاضراً في محضر الحقّ.
2- أن يعلم أنّ العالم محضر الربوبيّة، ويحتسب نفسه من حُضّار المجلس بين يدي الله.
3- أن يوصل إلى قلبه عظمة الحاضر والمحضر.
4- أن يُفهّم القلب أهميّة المناجاة مع الحقّ تعالى وخطرها.
5- أن يحضّر قلبه قبل الورود إلى الصلاة بالتفكّر والتدبّر، ويفهمه عظمة المطلب.
6- أن يلزم قلبه الخضوع والخشوع والطمأنينة والخشية والخوف والرجاء والذلّ والمسكنة إلى آخر الصلاة.
7- أن يشارط القلب بأن يراقب هذه الأمور ويحافظ عليها.
8- أن يتفكّر ويتدبّر في أحوال أعاظم الدين وهداة السبل، كيف كانت حالاتهم في الصلاة، وكيف كانوا يتعاملون مع مالك الملوك.
9- أن يتّخذ من أحوال أئمّة الهدى أسوة لنفسه، ويتأسّى بهؤلاء الأعاظم.
وأخيراً، أن لا يكتفي من تاريخ حياة أعاظم الدين وأئمّته بسنة وفاتهم ويومها وسنة تولّدهم ويومه ومقدار أعمارهم الشريفة، وأمثال ذلك من الأمور التي لا تترتّب عليها فائدة جليلة، بل يكون عمدة سيره في سيرهم الإيمانيّ والعرفانيّ وسلوكهم، كذلك أنّه كيف كانت معاملتهم في العبوديّة، وكيف كان مشيهم في السير إلى الله، وأيّ مقدار كانت مقاماتهم العرفانيّة التي تستفاد من كلماتهم الإعجازيّة.
(*) من كتاب: الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخمينيّ {، الباب الثاني، فصل القيام.
1.بحار الأنـــــــــوار، المجلسي، ج81، ص261.
2.روض الجنان، الشهيد الثاني، ج2، ص901.
3.الوافي، الفيــــــــض الكاشاني، ج9، ص1400.
4.مصباح المتهجّد، الطوسيّ، ص46.