مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

حياة الشهيد الأول: محمد بن مكي العاملي الجزيني (2)

محمد قدسي


شيخ الإسلام وفقيه أهل البيت عليهم الصلاة والسلام في زمانه، قدوة المحققين والمدققين محمد بن مكي العاملي الجزيني:
في الحلقة الماضية تحدثنا عن الحركة العلمية للشهيد الأول بدءاً من موطنه جزين إلى مختلف الأقطار الإسلامية التي شد إليها رحاله طالباً للعلم والمعرفة. وتوقفنا قليلاً أمام شيوخه المبرزين وآثاره النفيسة التي ما تزال حي نضرة حتى يومنا هذا. وفي هذه الحلقة نتابع سيرته الجهادية حتى شهادته رحمة الله عليه.


* جهاده:
لكي ندرس الجانب السياسي من حياة الشهيد ودوره في الجهاد، ينبغي أن ندرس الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاصرها. والاتجاهات الدينية والسياسية السائدة في عصره. لنلمس من وراء ذلك موقفه منها. وأثره في الحياة الاجتماعية ونوعية الدعوة التي كان يقوم بأعبائها من توجيه وإصلاح وبناء.
قضى الشهيد رضي الله عنه الشطر الأخير من عمره في دمشق أيام حكومة برقوق من ملوك الشراكسة الذين حكموا بعد الممالك البحرية من سنة 784هـ إلى سنة 922هـ. وكانت سمة الدولة الانهيار وانحلال الضوابط وسيطرة الخلافات وضعف الدولة. فقد نصب (برقوق) مرتين وعزل بينهما وكذا (الحاجي) والمتوكل. وهذا ما بعث الناس على عدم خضوعهم للدولة التي انشغلت بحروب داخلية وخارجية. وتدهور الوضع الاقتصادي فزادت الضرائب على السلع حتى الضرورية منها.

وفوق ذلك كانت الخلافات الطائفية بين الشيعة والسُنَّة قائمة على قدم وساق. فقد ظهرت الدولة الفاطمية كرد فعل لسلوك الدولة العباسية الظالم للشيعة. وقد تمكن الشيعة فترة الحكم الفاطمي من الاستيلاء على (مصر) وسوريا والعراق والحجاز واليمن ونشر المذهب الشيعي في هذه الأقطار.

فإذاً عاش الشهيد الشطر الأخير من حياته من عهد (برقوق) وقدر له أن يكوّن لنفسه في الشام مكانة اجتماعية وفكرية كبيرة ويفرض نفسه على مجتمع دمشق بشكل خاص ومجتمع سوريا بشكل عام. وأن ينفذ إلى الجهاز الحاكم ويستغله لغايات إصلاحية. وكان على اتصال دائم بالشخصيات السياسية في وقته. وكان بيته ندوة عامرة لأهل الفضل والعلم وطلاب المعرفة وعلماء دمشق والأقطار المجاورة.
وقد حارب الشهيد قدس سره كل تفرقة وفتنة بين الشيعة والسُنَّة. وحرص على توحيد الكلمة. وكان يتجنّب في مجلسه الخوض في مسائل الخلاف بين الشيعة والسُنَّة.
وحاول أن يستغلّ نفوذه في الأوساط السياسية ومكانته الفكرية في الإصلاح والتوجيه وتوحيد الكلمة. وكان على اتصال وثيق بحكومات الشيعة في وقت وله معهم علاقات سرية وعلنية كحكومة خراسان.
وفيما بقي لدينا من رسائل وملوك وعلماء الشيعة إلى الشهيد قدس سره نلمس بوضوح مكانة الشهيد بين الشيعة حكومات ورعايا. ورجوع الطائفة إليه في شؤونها العامة. فلا نعرف فقيهاً شيعياً بمستوى الشهيد في الفقاهة والمرجعية في هذه الفترة. وكان الشيعة يتشوّقون لزيارته وقدومه عليهم.

في هذه الحقبة من اضطراب الوضع السياسي والاجتماعي في البلدان الإسلامية ظهرت حركة تدعو إلى مذهب جديد. أحدثت بدعاً في الدين. تزعمها شخص يسمى بمحمد البالوش. ولعلها كانت منطبعة بطابع التصوُّف. وكان البالوش هذا خطيباً لذقاً مشعوذاً استطاع أن يشدَّ إلى دعوته الجديدة ناساً من الشيعة والسُنَّة في جبل عامل وغيره. ما شكّل خطراً على كيان الأمة.
فاتصل الشهيد قدس سره بالحكومة وأقنع الجهاز الحاكم بضرورة استئصال هذا الخطر فجهزت حكومة دمشق جيشاً واصطدموا بمعسكر البالوش وقضوا عليه وهزموا أنصاره.

* شهادته:
كانت حياة الشهيد قدس سره حلقات متواصلة من الجهاد والكفاح، وأروع ما في هذه الحياة وأجمل ما في هذه الصورة هذه الخاتمة المشرفة التي ختمت حياته. والتي تطبعها بطابع البقاء والخلود وتدرُّجه في سجل الخالدين.
وفد الشهيد قدس سره إلى دمشق وتمركز فيها فكونَّ لنفسه مكانة اجتماعية وسياسية وعلمية مرموقة. وحينما عرفه الناس وألفوا سعة صدره وعلمه التفوا حوله وعشقوه. فانحسرت مكانة علماء البلاط وضعف مركزهم الاجتماعي فشعروا بالخطر على مصالحهم في ظل وجود الشهيد قدس سره. وكان من هؤلاء العلماء برهان الدين بن جماعة) الذي استخدم لخدمة الجهاز الحاكم في دمشق ومصر في الفتيا كما يشاؤون والقضاء كما يشتهون والخطابة كما تقتضي شهوة حكمهم. وتنقل من الخطابة إلى التدريس إلى الإمامة إلى القضاء ثم إلى تولِّيه مشيخة.

وكان يقتل من يعارضه. وعندما استولى الشهيد على قلوب الناس في دمشق وغيرها وقبل أن يستقطب طلاب العلم ويمدَّ اتصالات مع كل الساسة. حاول برهان الدين هذا أن يحطَّ من مكانة الشهيد ويهينه، فوشى به إلى (بيدمر) حاكم دمشق وقضاة بيروت. وكذلك وشى بالشهيد بعض من تبقّى من أتباع البالوش الذين واصلوا بدعه أمثال (تقي الدين الجبلي) فكانت الخطوة الأولى للقضاء على الشهيد هي اعتقاله وإخفاؤه عن الناس حتى يتدرجوا في قتله. وعندما ضج الناس من طول اعتقال الشهيد، ورفعوا أصواتهم، خاف (بيدمر) من ثورة الناس وأن يهجموا على السجن لتحرير الشهيد، فدبّر خطة لقتل الشهيد. فكان أن قدمت إله تهم وأقاويل نسبت إلى الشهيد فكان أن قدمت إليه تهم وأقاويل نسبت إلى الشهيد يشنع عليه فيها. وشهد عليه بها سبعون من أتباع البالوش وألف من المتسنين من أتباع (ابن جماعة) وقدمت هذه التهم إلى قاضي بيروت وأتوا بالمحضر إلى (ابن جماعة) فنفذه إلى القاضي المالكي وهدده بالعزل إن لم يحكم بقتل الشهيد. فحكم بقتله ولم يكن الغرض هو القضاء على الشهيد فحسب فإنَّ ذلك حصل بالضربة الأولى من السيف، وإنما كان الغرض هو إهانة الشهيد بعد وفاته والحطّ من مكانته.
 

فقد قتل الشهيد قدس سره بدمشق ثم أمر بصلبه وهو مقتول بمرأى من الناس ويحيطه الجلاوزة للمحافظة على جثته من أن يستولي عليها مريدوه لدفنها. ثم لم يجد هؤلاء الحاقدون الوضيعون في ذلك شفاء لغليلهم فأمروا بإحراق الجسد الطاهر للشهيد. وهذا يدل على حقد دفين ومرض متأصل في نفس (ابن جماعة) و(بيدمر) وغيرهما اتجاه الشهيد.
ومهما يكن فقد مضى الشهيد بمآثر جليلة وأيادٍ بيضاء على الفقه والشريعة. خلّدته في سجل الخالدين من المجاهدين والعاملين في سبيل الإسلام.
فسلامٌ عليه يوم ولد، وسلامٌ عليه يوم استشهد، وسلامٌ عليه يوم يبعث حيّاً.﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون.
جعلنا الله من العاملين والمجاهدين في سبيله لإحقاق الحق وإزهاق الباطل.
والحمد لله رب العالمين
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع