السيد علي محمد جواد فضل الله
الشهيد الأول: محمد بن جمال الدين مكي العاملي (734ه - 786ه) (1334م - 1384) علم من أعلام القرن الثامن الهجري، ورائد من رواد الإمامية، وقمة من قممها العلمية والفكرية والعرفانية، وفي بيت من بيوت العلم والدين وفي قرية (جزين) من قرى عاملة، أبصر محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول - النور في سنة 734ه وذلك في عهد الدولة المملوكية وسلطانها (برقوق).
* نبوغ علمي مبكر:
تتلمذ الشهيد في أول دراسته على يدي والده الشيخ (جمال الدين مكي) فأخذ عنه مبادئ العربية والفقه، ودرس كذلك عند الشيخ (أسد الدين الصائغ)، حيث كان من العلماء الكبار يتقن ثلاثة عشر علماً من العلوم الرياضية، إلا أن الشهيد وبسبب قابلياته الفذة وطموحاته الكبيرة لم يكن موطنه ليشبع نهمه في تحصيل العلم والثقافة، فما كان منه إلا أن شدّ الرحال نحو الحواضر العلمية في العالم الإسلامي. وكانت قبلته المعرفية الأولى هي العراق، وبالخصوص حاضرتها العلمية آنذاك (الحلة)، وكان الشهيد بعد لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وذلك في سنة 750 للهجرة. وقد كانت (الحلة) يومها مركزاً أساسياً من مراكز العلم والحركة العقلية في الأوساط الإسلامية الشيعية، وقد استهل نشاطه في الحلة بالاتصال بأبرز علمائها آنذاك أعني به (فخر المحققين) حيث لازمه وحضر درسه وأبحاثه، يقول الخوانساري في (روضات الجنات): "وقد كان معظم اشتغاله في العلوم وقد توسم به أستاذه نبوغاً مبكراً وألمعية ملفتة تميز بها عن المئات من طلاب المحقق، مما أدى به إلى تقريبه وتعظيمه وجعله من خواص أصحابه، وهذا المقام الرفيع الذي دفع المحقق نفسه لأن يقول عن تلميذه فيما يروى عنه: (لقد استفدت من تلميذي محمد بن مكي أكثر مما استفاد مني).
* المكانة العلمية والاجتماعية للشهيد الأول:
تتلمذ الشهيد في العراق على أيدي علماء كبار هم أبرز وأخلص تلامذة العلامة الحلي، وأخذ عنهم الفقه والكلام، كما أنه أخذ علم الفلسفة عن (القطب الرازي)، كان للشهيد الأول تميز عن أسلافه من حيث دقة نظره في المسائل الفقهية واستيعابه الكامل لمختلف المسائل، فقد قيض له أن يطور من مناهج البحث الفقهي وينفح في مبانيها ويوسع فيها وينظم أبوابها ومسائلها، ويحيط بأحكامها وفروعها ويصوغها صياغة جديدة يزيدها جلالاً وروعة مما يرفع بكتبه إلى مستوى المرجعية في التأليف والبحث والدراسة. وهذا ما نلمسه جلياً في آثار الشهيد وخاصة في رسالته الفقهية المسماة ب (اللمعة الدمشقية) حيث ألفها الشهيد في منزله في دمشق في مدة سبعة أيام. كما ذكر صاحب (أمل الآمل) أن تأليفها كان في سنة حبسه والتي كانت آخر سني حياته. وفي هذا الصدد، يذكر الشهيد الثاني في مقدمته على (اللمعة) ما يؤكد هذا المعنى حيث يقول: "فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب كنت أخاف أن يدخل على أحد منهم فيراه، فما دخل علي أحد منذ شرعت في تصنيفه إلى أن فرغت منه، وكان ذلك من خفي الألطاف". وهو من جملة كراماته قدّس الله روحه ونور ضريحه".
* فكرة ولاية الفقيه:
إن الشهيد الأول طرح في رسالته الفقهية هده (اللمعة) فكرة نيابة الفقيه عن الإمام الغائب، حيث ذكر فيها ولأول مرة عبارة (نائب الإمام)، ولعله أول فقيه، من فقهاء الإمامية ممن يصرح بولاية الفقيه. وفي هذا المجال، تشير بعض المعطيات التاريخية إلى أن الشهيد قد باشر بتطبيق هذه الفكرة، حيث شرع العمل في المناطق والمدن المجاورة لمنطقته الجبلية بعيداً عن أعين السلطة في دمشق، وعين – من أجل ذلك - له نواباً على المناطق وبعض المدن كطرابلس وغيرها.
* الموقع الفكري للشهيد الأول:
للموقع الفكري العام لشهيد الأول، حيث إنه يكاد يكون من المجمع عليه عند من تناول النهضة الفكرية في جبل عامل، أن الشهيد الأول هو المؤسس الفعلي لهذه النهضة الفكرية، إذ اعتبرت سنة 755ه - 1354م - وهي سنة عودة الشهيد الأول من العراق - مبدأ البعث العلمي، والأدبي في جبل عامل، إذ أنه وفي بلدته (جزين) قام الشهيد بتأسيس أول مدرسة فقهية أصولية وذلك سنة (771هـ - 1371م)، وذلك بعد توقف الدراسة في الحاضرة العلمية في النجف الأشرف على إثر غارات التتار ونكبة بغداد، وقد كانت هذه المدرسة أشبه بالمجمع العلمي لبعض العلماء والمجتهدين بنشر العلم وإنشاء المدارس في مختلف أنحاء جبل عامل، وقد استمرت هذه المدرسة بالعطاء ما يزيد عن خمسة قرون أي حتى عام (1757م - 1270هـ) انتقلت من بعدها إلى بلدة (جبع) لقربها من (جزين)، على أثر أحداث طائفية أدت إلى خروج الشيعة من (جزين). وعلى كلِّ، فلو نظرنا إلى عصر الشهيد الأول لوجدنا أن الشهيد قد شغل مكانة علمية واجتماعية لم يدانه فيها أحد من معاصريه، فقد كان على صلات بكثير من علماء عصره، وكذلك الحال مع الأمراء والحكام، كان بيت الشهيد في (دمشق) موئلاً يختلف إليه علماء السنة والشيعة على السواء، وكذلك الوجهاء والعامة من الناس لقضاء حوائجهم وتلبية أمورهم.
* قيل فيه:
ترك لنا الشهيد ما يربو من ثمانية عشر كتاباً ورسالة فقهية (كاللمعة الدمشقية) (والدروس الشرعية في فقه الإمامية) و(ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة) و (القواعد والفوائد) و (غاية المراد في شرح نكت الإرشاد) والمتن للعلامة الحلي، وغير ذلك الكثير من الكتب والحواشي والرسائل الفقهية، والتي تركت أثراً كبيراً في تطوير البحث الفقهي ومناهج الدراسة الفقهية والأصولية. وقال عنه الشيخ محمد بن يوسف الكرماني القرشي الشافعي في إجازته له: (المولى الأعظم الأعلم، إمام الأئمة، صاحب الفضلين، مجمع المناقب والكمالات الفاخرة، جامع علوم الدنيا والآخرة". وقال عنه الشهيد الثاني في مقدمة (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) (شيخنا وإمامنا المحقق، البدل، النحرير، المدقق، الجامع بين منقبة العلم والسعادة ومرتبة العمل والشهادة...). وذكره (المحقق الكركي) بقوله: (الإمام شيخ الإسلام، فقيه أهل البيت في زمانه، ملك العلماء، علم الفقهاء، قدوة المحققين والمدققين، أفضل المتقدمين والمتأخرين). ونختم بكلام جامع بحق الشهيد الأول قاله الشيخ (الحر العاملي) في كتابه (أمل الآمل) قال: (كان عالماً، ماهراً، فقيهاً، محدثاً، محققاً، متبحراً، كاملاً، جامعاً لفنون العقليات والنقليات، زاهداً، عابداً، شاعراً، أديباً، منشئاً، فريد دهره، عديم النظير في زمانه).
* أدبه وشعره:
لا شك أن أدب المرء وشعره هو انعكاس لشخصه ومرآة تتجلى به ذاته، إن هو إلا قبس من روحه، ووميض في فكره ونبضة من قلبه. وفي شعر الشهيد نلتقي بوضوح مع الجانب العرفاني الرباني من شخصيته. وكذلك، نلتقي في شعره مع نقده اللاذع للتصوف الذي يراد منه المظهر لا المضمون. وهاك بعض من روائع أشعاره: يقول في المناجاة:
عظمت مصيبة عبدك المسكين |
في نومه عن مهر حور العين |
الأولياء تمتعوا بك في الدجى |
بتهجد وتخشع وحنين |
فطردتني عن قرع بابك دونهم |
أترى لعظم جرائمي سبقوني |
أوجدتهم لم يذنبوا فرحمتهم |
أم أذنبوا فعفوت عنهم دوني |
إن لم يكن للعفو عندك موضع |
للمذنبين، فأين حسن ظنوني؟!! |
* استشهاده قدس سره: الظروف والملابسات:
هناك أسباب متعددة أدّت إلى استشهاد الشهيد رحمه الله تعالى، وذلك بعد أن حبس لسنة كاملة في قلعة دمشق بغية إبعاده عن الناس والتواصل معهم، ولكن قتله بالسيف والتخلص منه شيء والتشنيع بجسده الطاهر بعد قتله شيء آخر، حيث إنهم قاموا بصلبه ورجمه بالحجارة وهو مصلوب ومن ثم حرق جسده، وكان يوم استشهاده كما نقل عن خط ولده قوله: استشهد والدي الإمام العلامة... شهيداً حريقاً بالنار يوم الخميس تاسع جمادى الأولى لسنة ست وثمانين وسبع مائة، وكل ذلك فعل برحبة قلعة دمشق.وبذلك، كانت حياة الشهيد رحمه الله تعالى مصداقاً لقوله عز وجل ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
(1) روضات الجنات، ج7، ص 5، ص 21.
(2) أعلام الفكر في الإسلام، طراد حمادة، ص 478 - 486.
(3) تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره، جعفر السبحاني، ص 330 - 332.
(4) تقدمة كتاب الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية بقلم الشيخ محمد مهدي الأصفي، ص 77 - ص 148.
(5) جبل عامل بين (1516 - 1697) الحياة السياسية والثقافية، علي إبراهيم درويش، ص 123 – 128.