مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الشهيد الأول محطة مضيئة في سماء جبل عامل‏


الشيخ حسن بغدادي(*)


ولد الشيخ محمد بن مكي الجزيني المعروف بالشهيد الأول في بلدة جزين إحدى قرى جبل عامل سنة 729ه 1328م في بيت عُرِفَ بالعلم والتقوى فوالده وجدَّه كانا من علماء جبل عامل، فوالده الشيخ مكي بن محمد بن حامد الجزيني قال عنه الحر العاملي: بأنه من فضلاء المشايخ في زمانه(1)، وجدَّه عبّر عنه أيضاً الشيخ الحر العاملي: بأنه عالم ثقة(2)، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا المناخ على شخصية الشهيد ونمط تفكيره، وما إن بلغ من العمر ستة عشرة سنة حتى استنفد الطاقة العلمية عند أبيه وبقية علماء هذا الجبل،. مما دعاه إلى شد الرحال بإتجاه الحوزة العلمية الأم، والسّبب هي الظروف القاسية التي أوجدها الاحتلال الصليبي للمنطقة، ممّا منع من الاستقلال العلمي وبالتالي عدم الاستغناء عن مراكز الأم في الحوزات العلمية، ومما نقله السيد الأمين عن تأريخ جبل عامل: كان الناس يعيشون الغربة في أوطانهم ويدفعون الجزية للإفرنج ويشاطرونهم الغلات(3)، ومع ذلك لم ينقطع وجود علماء فضلاء عن جبل عامل كانوا يقومون بدورهم التبليغي الديني، وإنّ أقدم ما وصل إلينا من علماء هذا الجبل الشيخ جمال الدين إبراهيم بن الحسام أبي الغيث العاملي الذي كان حياً سنة 669هـ(4)، والشيخ نجم الدين طومان بن أحمد المناري توفي سنة 728ه وكان من أساتذة الشيخ مكي بن محمد الجزيني والد الشهيد الأول(5)، إذاً ما حققه الشهيد الأول من نهضة علمية كان نتيجة إستمرار هذا الحضور العلمائي في هذا الجبل المبارك، مضافاً للمواصفات الاستثنائية التي كان يتمتع بها الشهيد من سعة أفق وذهنية متألقة، وإمكانيات فكرية وعلمية(6).

* في الحلة
أصبحت الحلة عاصمة الحوزة العلمية بعد تدمير المغول للحوزة العلمية في بغداد، وبعد وصول الشهيد إليها وجد مؤسس هذه الحوزة العلامة الحلي قد توفي، وخلف ولده فخر المحققين أستاذاً ومديراً لشؤون الحوزة، فبقي الشهيد ما يزيد على العقد من الزمن فيها تلميذاً ومباحثاً منكباً على العلم بلا ملل ولا ضجر حتى استبانت مكانته العلمية، مما جعل فخر المحققين يقول عنه: إنني استفدت منه أكثر مما استفاد مني ، ودرس أيضاً على الأخوين العالمين السيد عميد الدين الحلي الحسيني والسيد ضياء الدين الحلي الحسيني وأجاز الشهيد بالاجتهاد والرواية وهما شارحا كتاب التهذيب لخالهما العلامة الحلي، وخلال هذه المدة حاز الشهيد على العديد من الإجازات، وقد دوّنت بعدة مصادر منها أمل الآمل تكملة أمل الآمل لؤلؤة البحرين الكنى والألقاب بحار الأنوار في طريق العودة . غادر الشهيد الحلة وهو أحد فضلائها ولم يعد مباشرة إلى جزين رغم الحنين والشوق إليها، إذ كان يحضّر لمشروع ظهرت آثاره فيما بعد، فاتجه إلى بغداد وقرأ فيها على الفقيه الشافعي شمس الأئمة الكرماني كما ينقل الجزري في كتابه، ومنها إلى دمشق والقاهرة ومكة المكرمة والمدينة المنورة ومقام إبراهيم الخليل، فدرس على شيوخها وتبادل الأفكار معهم وكما يقول هو رحمه اللّه في بعض إجازاته أنه روى مصنفات العامة عن نحو أربعين شيخاً من علمائهم(7)، ولعلّ الإجازة هي لابن الخازن الحائري في دمشق.

أقوال العلماء فيه‏
نقل العلامة الخوانساري في روضات الجنات: وصف الشهيدَ كلُّ من رآه وتباحث معه بأنه أفقه جميع فقهاء الآفاق بعد مولانا المحقق(8)، وقال عنه الحر العاملي: كان عالماً فقيهاً محدثاً مدققاً ثقةً متبحراً كاملاً جامعاً لفنون العقليات والنقليات زاهداً عابداً ورعاً شاعراً أديباً عديم النظير في زمانه(9)، وقال فخر المحققين ابن العلامة الحلي في إجازته التي كتبها على ظهر القواعد عند قراءتها عليه: قرأ علي مولانا الإمام العلامة الأعظم أفضل علماء العالم سيد فضلاء بني آدم مولانا شمس الحق والدين محمد بن مكي أدام اللّه أيامه من هذا الكتاب مشكلاته، وأجزت له رواية جميع كتب والدي قدس سره وجميع ما صنّفه أصحابنا المتقدمون، ومن أراد المزيد فليرجع إلى عدة مصادر اعتمدنا عليها(10)، وعن الشيخ جعفر النجفي وهو أحد علمائها قوله: الفقه باق على بكارته لم يمسّه إلا أنا والشهيد الأول وولدي موسى(11)، ومن يريد الإذعان بهذا الكلام بحق الشهيد فليعد إلى ما كتبه الشهيد في القواعد الفقهية الكلية، ومن يريد أن يتضح له ذلك عن الشيخ جعفر النجفي فليرجع إلى كتاب كشف الغطاء للشيخ جعفر النجفي وسائر تأليفاته(12)، وكان يقول شريف العلماء: لو محي الفقه فإنني سأستخرج جميع مسائله من كتاب القواعد للشهيد الأول.

* في جزين‏
بعد عودة الشهيد إلى جزين كان قد حقق شيئين:

الأول: إكتمال نضوجه العلمي إلى حد أنه أصبح من كبار علماء الإمامية بل تعدى ذلك إلى كونه من الضالعين بما عند فقهاء السنّة.

الثاني: أسّس في طريق العودة من الحلة علاقة متينة مع فقهاء السنّة ومراكزهم الفكرية على أسس علمية وفكرية، وهذا يؤكد أن الشهيد كان يحضّر لمشروع كبير يستنهض الوضع الشيعي ويفتح باباً كبيراً للحوار مع المشروع السنّي، والذي سيؤدي فيما لو اكتملت عناصره إلى نصر مؤزر لمذهب أهل البيت عليهم السلام، وهنا لا بدّ من إطلالة سريعة على أهم العناصر التي ساهمت في نجاح مشروع الشهيد:

أ - بقاء (جزين) خارج الاحتلال الصليبي لمنطقة جبل عامل، ممّا جعل منها أرضاً خصبة وحاضرة لاستقبال أي مشروع يُحضّر للمنطقة، وتواجد الحالة العلمائية وبعض المجاهدين الذين فرّوا من مناطق الاحتلال الصليبي إليها ممّا مكّنها أن تكون قاعدة الانطلاق.

ب - قيام دولة المماليك: حيث قامت بطرد المحتلّ الصليبي من المناطق اللبنانية سنة 666هـ باستثناء مدينة صور التي لم يجلُ عنها إلا سنة 690هـ(13)، مما أتاح فرصة الاستقرار الأمني، فالمماليك كان همهم السلطة فقط من دون التدخل في الشؤون الدينية والكلامية بين المسلمين، والذي ساعد في هذا الموضوع أنّ معظم المسؤولين في الدولة المملوكية كانوا من الأميين، ممّا أتاح فرصة كبيرة أمام الشهيد لإطلاق العنان لمشروعه الديني السياسي.

ج - قيام نهضة علمية مستقلة في جزين: هذا العنصر الثالث صنعه الشهيد حيث عمد إلى تأسيس حوزة علمية قائمة على الاكتفاء الذاتي من دون ضرورة الذهاب إلى المراكز الأم في الحوزات العلمية، وبالفعل نهض جبل عامل في عهد الشهيد كمركز علمي يُشد إليها الرحال واستقل علمياً إلى زمن ما بعد الشهيد الأول، وقد نقل هذا المعنى الشيخ الحر العاملي أن سمع من بعض مشايخه أن اجتمع في جنازة في قرية من قرى جبل عامل سبعون مجتهداً وكان ذلك في عصر الشهيد الثاني(14). هذه النهضة العلمية كانت الركيزة الأساسية في انطلاقة مشروع الشهيد الأول، فالعلماء هم الأساس والرابط بين الأمة والحاكم، وهذا ما يعبّر عنه بصيغة (الوكلاء)، بالفعل تم توزيع وانتشار علماء تلك الحوزة في المدن والقرى الشيعية وقام هؤلاء بدورهم التبليغي الديني وعملوا على توعية الناس وربطهم بالشهيد الأول كنائب للإمام الحجة عجل الله فرجه، وخصوصاً بعد مرور أكثر من قرنين من الزمن على الاحتلال الصليبي الحاقد، كان لا بد من شخص يرشدها ويلملم شتاتها ويجمعها على مرحلة جديدة ونهج جديد فكان مشروع ولاية الفقيه .| فالمشروع الديني السياسي لا يقوم إلا على مبدأ ولاية الفقيه، التي تجعل الأمة ترتبط إرتباطاً وثيقاً بمنهجية واضحة قائمة على رؤية دينية تبرئة للذمة تضمن معها الأمة عدم ضياع دمها ومالها، فهي الإطار الوحيد والكفيل بحماية هذا الجهد وعدم تبعثره. ولعل أول من ذهب إلى نظرية ولاية الفقيه الشهيد الأول بعد عصر الغيبة، لذا أجد أن هذه الولاية يحتاجها كلّ فقيه يفكر بإنشاء دولة إسلامية، أو بناء مجتمع إسلامي يكون قادراً على التفاعل مع قائده، لمنع أي اختراق يحمل فكراً ونهجاً معادياً كما حدث مع الشهيد وحركة الجالوشي.

د - الانفتاح على فقهاء ومواقع القرار السنّي: وهذا القرار إلتزمه الشهيد بالحوزة العلمية في الحلة، وعمل به أثناء العودة إلى جزين، فانتشار المفهوم الشيعي كما يحتاج إلى مقومات ذاتية كما ذكرنا، كذلك يحتاج إلى علاقة مرنة مع القوى المناهضة تجعله يمر من دون عقبات، ومن جهة تفتح نافذة كبيرة على القاعدة السنّية علّها تتمكّن من مواجهة الحقيقة والقبول بها، وفي حَدِّها الأدنى تؤسس لركيزة قبول الطرف الآخر، في الوقت الذي عمل كثيرون على رفض المشروع الشيعي بالمطلق، وهذا يستلزم سدّ باب الحوار وخلق أجواء مضادة عنيفة، وفي الحقيقة لقد اكتشف المتضررون هذا الخطر فعمدوا إلى مواجهة الشهيد وقتله.

استشهاد الشهيد الأول‏
بعدما نهض المشروع الديني السياسي للشهيد كقوة أساسية في المنطقة، تقاطعت المصالح بين المتضررين الشيعة وبين الجماعات الحاقدة على نهج أهل البيت عليهم السلام، فما كان منه رحمه اللّه إلاّ أن واجهها بقوة ومن دون تردد واعتبرها حركة مفسدة في الأرض، وعلى أثرها دارت معركة كبيرة بين جماعة الشهيد وجماعة محمد الجالوشي أدت إلى هزيمة الثاني وقتله وهذا ما نقله في روضات الجنات عن أحد الحواشي المعتبرة على شرح اللمعة: عند بلوغ الكلام في باب المحرمات من المكاسب إلى قول المصنف رحمه اللّه «وتعلم السحر» ثم إتباعه من الشارح بقوله: ولا بأس بتعلمه ليدفع سحر المتنبيّ به كما دفع المصنف قدس سره (نبوة محمد الجالوشي) لما ادعى النبوة في جبل عاملة وبلغ أمره ما بلغ، فقتله المصنف بعد إبطال سحره(15)، وكما هو المشهور فإن المعركة كانت في النبطية الفوقا وعلى يمين الطريق توجد مقبرة تضمّ ما يقرب من ثلاثة آلاف شهيد تعرف باسم مقبرة الشهداء، ثم ورث هذا اللعين رجل آخر اسمه (الخيامي) وبعد وفاته قام على طريقه شخص اسمه يوسف بن يحيى وارتد عن مذهب الإمامية وكتب محضراً شنّع فيه على الشيخ الشهيد وشهد على ذلك المحضر سبعون نفساً من أهل الجبل ممن ارتدوا عن التشيّع وكتب ما يزيد على الألف من أهل السواحل السنّة، وأثبتوا ذلك عند قاضي صيدا، وأتو بالمحضر إلى القاضي عباد بن جماعة بدمشق، وأثبتوا على الشهيد أنه انتحل عقيدة النصيرية واستحل الخمرة، وجمع الضرائب وسبّ الصحابة، فأمر القاضي الشافعي عباد بن جماعة بحبسه سنة بالقلعة بدمشق على أن يستتاب(16) على مقتضى مذهبه، ويقال أنّ سبب غيظ بن جماعة على الشيخ الشهيد: أنه جرى يوماً بينهما كلام في بعض المسائل وكانا متقابلين وبين يدي الشهيد دواة، وكان بن جماعة كبير الجثة بخلاف الشهيد فإنه كان صغير البدن، فقال ابن الجماعة إني أجد حساً من وراء الدواة ولا أفهم ما يكون معناه فأجابه الشهيد: نعم ابن الواحد لا يكون أعظم من هذا، فخجل ابن الجماعة وامتلأ حقداً(17)، وكيف ما كان حاول القاضي ابن الجماعة أن يستتيب الشهيد فرفض كي لا يثبت عليه، فغضب ابن الجماعة وسارّه ساعة ثم قال للقاضي المالكي إنه تاب، فرفضها المالكي وحكم بإراقة دمه بعدما صلى القاضي ركعتين عليه لعائن اللّه، ثمّ أخرج رضوان اللّه عليه إلى تحت القلعة وضرب بالسيف ثم صلب وبعد ذلك أحرقوا جثمانه الشريف وذلك في جمادي الأولى سنة 786هـ - 1384م(18).

* أما مؤلفاته‏
1 - القواعد والفوائد في الفقه.
2 - الدروس الشرعية في فقه الإمامية.
3 - غاية المراد في شرح الإرشاد في الفقه.
4 - شرح التهذيب الجمالي في أصول الفقه وهو أي التهذيب للعلامة الحلي.
5 - اللمعة الدمشقية وألفها بدمشق خلال سبعة أيام أرسلها كرسالة عملية لأهل خراسان عندما طلب منه القدوم إليهم حاكمها علي بن المؤيد، قيل أنه كتبها بالسجن في القلعة والمشهور أنه كتبها قبل شهادته بسنوات، هذا ما نقله ولده أبو طالب محمد بخلاف ما ذهب إليه الحر العاملي في أمل الآمل(19).
6 - الرسالة الألفية في الصلاة.
7 - الرسالة النفلية في الصلاة في أربعة آلاف مسألة.
8 - رسالة في التكليف وفروعه.
9 - رسالة تشتمل على مناسك الحج.
10 - كتاب الذكرى خرج منه الطهارة والصلاة.
11 - جامع البين في فوائد الشرحين وهما للسيدين عميد الدين وضياء الدين الحلي الحسيني على كتاب التهذيب للعلامة الحلي.
12 - البيان في الفقه.
13 - رسالة الباقيات الصالحات.
14 - شرح أربعين حديثاً.
15 - رسالة في قصر من سافر بقصد الإفطار والتقصير.
16 - إجازات.
17 - كتاب المزار.
18 - كتاب الاستدراك.
19 - الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة.
20 - المسائل المقداديات.
21 - شرح قصيدة أبي الحسن علي بن الحسين في مدح أمير المؤمنين عليه السلام وهي من جملة ديوانه الكبير.
والحمد للّه رب العالمين راعينا الاختصار بقدر الإمكان ومن شاء التفصيل فليعد إلى المصادر التي ذكرناها.


(*) مدير جمعية الإمام الصادق عليه السلام للبحوث في تراث علماء جبل عامل.
(1) أمل الآمل ح‏1 185.
(2) أمل الآمل ح‏1 105.
(3) السيد حسن الأمين دائرة المعارف ح‏6 134 عن الرحالة بن جبير.
(4) السيد حسن الأمين دائرة المعارف ح‏6 134.
(5) روضات الجنات ج‏7 8.
(6) طبقات القراء ح‏2 265.
(7) روضات الجنات ج‏7 11 ورياض العلماء ح‏3 368.
(8) روضات الجنات ح‏7 5.
(9) أمل الآمل ح‏1 86.
(10) بحار الأنوار أمل الآمل لؤلؤة البحرين، الكنى والألقاب.
(11) قصص العلماء للتنكابني 361.
(12) قصص العلماء للتنكابني 199.
(13) أمل الآمل ج‏1 15 دائرة المعارف للسيد حسن الأمين ج‏6 135.
(14) أمل الآمل ح‏1 15.
(15) روضات الجنات ح‏7 6.
(16) روضات الجنات ج‏7 14.
(17) روضات الجنات ح‏7 15.
(18) أمل الآمل ح‏1 82.
(19) روضات الجنات ح‏7 13.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع