صفحاتٌ قارعت الزمن، عانقت الألم، ولوعةُ الصّبر بادية في
طيّاتها. في سطورها الظاهرة عبارات كانت قد شهدَت الظلم والقهر والنفي والسجن
والحرمان. اليوم تقلّبها راحَةُ اليد الواحدة، وجليسها ينعمُ هانئاً بنور هَديها،
لا يشعر بما مرّ عليها من مِحن وعناء، فسِرُّها يكمُن خلف السطور بين أنامل أيادٍ
بايعت الله بجهادٍ من نوع آخر، كانت ثماره حفظ تراث أئمّة الإسلام عليهم السلام.
في هذا المقال نعرض لقرّائنا الأعزّاء بعضاً من جهاد العلماء في جمع التراث المكتوب
المنقول عن أئمتنا عليهم السلام.
* حَفِظ المخطوطات بالصوم والصلاة
لم تشغله شقوة الشباب عن تحمّل المسؤوليّة وتكبُّد العناء في سبيل الحصول على ما
ضيّعته يد الاحتلال البريطانيّ من الكتب القيّمة والمخطوطات الجليلة، هو السيّد
المرعشي النجفي.
كثيرةٌ هي المرّات التي ألغى فيها وجبةً من وجبات طعامه اليوميّ، عمل في مطاحن
الأرزّ ليلاً، وصلّى وصام فيها نيابةً عن الأموات ليجمع كميّةً من المال يشتري بها
الكتب المهمَّة، والمخطوطات النادرة. بداية، تظنّ أنّ الأمر مبالَغٌ فيه إلى حدّ
ما، ولكن تفاجئك الصفحات الأولى من بعض الكتب التي حوتها مكتبته حيث كُتب عليها:
"اشتريت هذا المخطوط بثلاث سنوات قضاء صلاة عن والد صاحب المخطوط"، أو "اشتريت هذا
المخطوط بقضاء أربعة أشهر صوم نيابةً عن والد صاحب المخطوط"، أو "اشتريت هذا
المخطوط بزيارة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام لمدّة سنة كاملة نيابةً عن صاحبه".
كم عانى من أجل الحفاظ على تراثنا الإسلاميّ! إنّه جهاد فريد حقّاً، أورثنا مكتبة
تضمّ الآن 31 ألف مخطوط، من أقدمها نسخة بالخطّ الكوفي للقرآن الكريم سنة 1001م -
423هـ.
أوصى السيّد المرعشي أن يُدفن في مدخل المكتبة لتطأه أقدام زوّارها وطَلبة العلم..
وتمّ هذا بالفعل لكن، واحتراماً لمقامه، بُني عليه شبّاك صغير.
* قلم الليل الفريد
سَلْ ظُلمة الليل عن عزيزها "الفقيه المتتبّع" الذي ما كلَّت يُمناه من كَثرة
الكتابة، حتى إنَّه عدَّها عبادة، هو السيد محمد جواد الحسيني العاملي قدس سره صاحب
كتاب "مفتاح الكرامة". يظهر في جملة من مصنّفاته أنَّهُ فرغ منها في منتصف الليل،
وبعضها في السّحر، وفي بعضها ليلة القدر أو ليلة الفطر، حتَّى إنَّهُ أيّام محاصَرة
الوهّابيّين للنجف الأشرف، لمْ يفتُر عن التأليف والتدريس، معَ اشتغاله معَ العلماء
بأمور الجهاد، ومباشرة الحصار، وتهيئة أسباب الدفاع، والطّواف ليلاً على الحرّاس
والمحاربين. فقد صنّف يومئذٍ رسالةً في وجوب الذَبِّ عن النجف الأشرف، كما صنَّف
جملةً من مجلّدات مفتاح الكرامة، وفرغ منها في تلكَ الحال، كمجلّد الضمان والشّفعة
والوكالة، وكان في السبعين من عمره الشريف.
ناهيك عمّا نقلته ابنته حيث قالت: "كان والدي لا ينام من الليل إلّا أقلّه، ولا
أعلمُ أنَّني استيقظتُ ليلًا فوجدتُه نائماً، وكان سبطه الشَيخ رضا بن زين العابدين
العامليّ معه في داره مدّةً، فكان إذا فرغ من مطالعة أبحاثه ينام، ويبقى جدُّه [أي
السيّد محمد جواد] مشغولاً بشغله، فيلتفت إليه ويقول: ما هذا التعشُّق للنوم، أنا
يكفيني منه هكذا، ويضع رأسه بين ركبتيْه وينام، ثُمَّ لا يكاد يلتذّ بالنوم حتَّى
يستيقظ ويرجع إلى شغله.
* جهاد حكاه نتاجهم
كتبوا في عهدٍ ليس فيه سوى الحبر والورق، فلا حواسيب ولا طابعات. حبرهم خالط الدم
والصّبر على الأذى، وعتمة الليل تشهد.
1- العلّامة الأمينيّ: ترك البحث والتدريس، وأغلق على نفسه باب التردّد على
الأندية والمجتمعات، وجلس في داره معتكفاً في مكتبته الخاصّة، متفرّغاً للجهاد في
هذا الميدان الديني المقدّس، محتّماً على نفسه الكتابة والمطالعة ستّ عشرة ساعةً في
الليل والنهار. وعلى إثر هذه الخطوة المجهدة والعمل المُضني لم تكن حياته المباركة
إلّا عَناء، فقد أمضى نصف قرن من عمره في التأليف، ومن مؤلّفاته سِفره "الغدير"
(أحد عشر مجلّداً).
وقد أخذ العلّامة طريقه إلى مكتبات النجف، وراح يقضي بها جلّ نهاره، ويستنسخ منها
الكتب، ثمّ يقوم بتنظيمها في مكتبته الخاصّة، غير مكترث بالعوامل الزمنيّة من حرٍّ
أو برد. دار بين المكتبات المعروفة في العراق (حوالي 20 مكتبة) بحثاً عن المصادر
المهمّة والمخطوطات العريقة، حيث أخذ يقرؤها قراءة تحقيقيّة، وينسخها بخطّه.
يُنقل أنّ إحدى المكتبات التي تردّد إليها كانت بالقرب من إحدى الحسينيّات التي
يقصدها الناس للتعزية وأداء المراسم والشعائر الدينيّة، فلم يرَ بدّاً سوى الذهاب
إليها ليلاً للاستفادة من كنوزها، فيبقى فيها طوال الليل ساهراً على المطالعة
والاستنساخ، ولا يعلم بالوقت إلّا حين يُفتح له الباب لأداء فريضة الصبح، ثم يعود
إلى الدار حيث يعمل في مكتبته الخاصّة.
ولم يتوقّف قدس سره عند مكتبات العراق فحسب، بل جالَ البلاد بحثاً عن المصادر
والمخطوطات العريقة، كالهند وتركيا وسوريا، ولكنّ المرض العضال الذي ألمّ به أرداه.
2- الشيخ محمد باقر المجلسيّ (1037هـ- 1111هـ) صاحب "كتاب بحار الأنوار". كتب
أكثر من مئة كتاب باللغة الفارسيّة والعربيّة خلال 74 سنة من عمره المبارك، وإنّ
كتاب "بحار الأنوار" هو أحد أبرز مؤلّفاته المشهورة ويضم 110 مجلدات، وله كتاب آخر
هو "مرآة العقول" يضمّ 26 مجلداً.
3- الشيخ محمّد بن مكّي العامليّ الجزينيّ "الشهيد الأول" (734 هـ- 786هـ)
شغلته الصلاة وآدابها المعنويّة فسوَّرها كي لا تطالها أيدي المسرفين، فجمع ألف
حُكم من أحكام الصلاة الواجبة في كتاب أسماه "الألفيّة"، وجمع مستحبّاتها في كتاب
أسماه "النفليّة".
ولمّا كانت حاجة أهل خراسان إلى مرجع فقهيّ قد بَدَت، كتب قدس سره كتابه المشهور
"اللُّمعة الدمشقيّة في فقه الإماميّة" في أيّام لم تتعدّ السبعة، وما زال كتابهُ
هذا يُدرَّس في كلّ حوزاتنا مع شرحه لتلميذه الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد
العامليّ "الشهيد الثاني" (رضوان الله عليهما)، وما ذلك إلّا لخصائص عديدة توفّرت
في هذه الإشراقة الحميدة.
4- الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثيّ المذحجي (338هـ -413هـ) (المعروف
بالشيخ المفيد)، أحصى له السيّد الأمين قرابة مائتي كتاب ورسالة في الفقه
والكلام والحديث. عندما تجالس الفقهاء سترى الشيخ المفيد قدس سره حاضراً في مجلسهم
وكأنّه من المعاصرين، أو أنّه فقيه قد رحل منذ زمن ليس ببعيد، وتسيطر عليك الحيرة
عندما تعلم أنّه من فقهاء القرن الرابع الهجريّ، أجل، لقد عبر الزمن، فلا حدود
لزمانه.
كثر هم العلماء الذين تكفّلوا بكتابة ونقل تراث آل محمد (صلوات الله عليهم)،
منهم من أبدته الآثار الغزيرة، ومنهم من أخفى ذكرهم الزمن، ربّما ليبقى في السماء.