محمد قدسي
شيخ الإسلام وفقيه أهل البيت عليهم السلام في
زمانه، قدوة المحققين والمدققين...
* تمهيد:
حياة الشهيد الأول الفقيه الأعظم (محمد بن مكي) العاملي الجزيني متشعبة الأطراف،
بعيدة الأغوار، لا يكفي لدراستها واستعراضها هذا العرض السريع واللمسات الخفيفة،
التي لا تمس من حياة الرجال غير ظواهر سطحية من حياتهم، يعرضها التاريخ بتفصيل أو
يلمح إليها بإجمال.
فقد جدد الفقيه الأعظم الشهيد الأول مدرسةً في الفقه، لها أبعادها وحدودها وسماتها
الخاصة التي تميزها عن المدارس الفقهية السابقة عليها.
وخاض غمار السياسة، واشتبك مع الاتجاهات السياسية المعارضة في وقته.
فقد كان له أثر كبير على الحياة الثقافية والفكرية وعلى الحياة السياسية في وقته.
ويزيد في أهمي ذلك كله أنه كان يمثل في الجانبين معاً، الجانب الفكري والجانب
السياسي إتجاهاً فكرياً خاصاً. كان يلقى المعارضة كل المعارضة من قبل الواجهات
السياسية والفكرية في وقته، باعتباره مذهباً فكرياً وسياسياً خطراً على الكيان
الاجتماعي القائم في وقته وعلى الجهاز الحاكم بصورة خاصة. إذاً فحديثنا عن حياة (الشهيد
الأول) ينقسم إلى جانبين: ندرس في الجانب الأول شخصية الشهيد الفكرية وأثره في تطور
الفقه الإسلامي. وفي الجانب الثاني نبحث عن حياة الشهيد السياسية وموقفه من الحركات
المعارضة وأثره في تكوين الكيان السياسي الذي كان يدعو إليه كفقيه شيعي كبير.
* موطنه:
ولد الشهيد الأول في جزين، وقد كان لبيئة جبل عامل وجزين بنحو خاص أثر في تكوين
شخصية الشهيد الأول، فقد كان (جبل عامل) منذ ولادة فقيهنا المترجم له إلى الوقت
الحاضر مركزاً من مراكز الإشعاع في مجال الفكر الإسلامي ولاسيما في الدراسات
الفقهية والأدبية.
ورغم أن المنطقة صغيرة في حد ذاتها، فقد قدمت للعالم الإسلامي- على مدى تاريخها
المشرق- رجالاً من ذوي الكفاءة والثقافة الراقية في مجالات الفكر الإسلامي.
ويكفي أن يتصفّح الإنسان كتاب (أمل الآمل) وما ألحق به من مستدركات وتكملات ليلمس
أهمية هذا القطر من الناحية الفكرية والفقهية بصورة خاصة.
يقول الشيخ الحر العاملي رحمه الله: إن علماء الشيعة في جبل عامل يبلغون نحو الخمس
من علماء الشيعة في جميع الأقطار، مع أن بلادهم أقل من عشر بلاد الشيعة.
في مثل هذه البيئة نشأ الشهيد الأول، وفتح عينيه على الحياة فخالط العلماء وارتاد
المجالس والندوات العلمية التي كانت تعقد في أطراف هذا القطر واشترك في حلقات
الدراسات التي كانت تعقد في المساجد والمدارس والبيوت. وفي البيوت كان يجد من والده
الشيخ (مكي جمال الدين) دافعاً قوياً لممارسة الدراسة وباعثاً على التفكير والدرس،
كما كان يجد من المجالس التي كانت تعقد في بيتهم من حين وآخر ويحضرها نفر من
العلماء المرموقين في المنطقة مجالاً خصباً للتفكير والمناقشة وإبداء الرأي.
* رحلاته وشيوخه:
لم يقتصر الشهيد الأول على الثقافة التي تلقاها في مسقط رأسه (جزين) وإنما تجاوزها
إلى أقطار بعيدة وأخرى قريبة من (مراكز الفكر الإسلامي) في ذلك العهد.
وأهم هذه الأقطار التي شد إليها الشهيد الأول الرحال لتلقي العلم أو الإفادة هي (الحلة)
و(كربلاء) و(بغداد) و(مكة المكرّمة) و(المدينة المنوّرة) و(الشام) و(القدس)..
وكانت هذه الأقطار في القرن الثامن الهجري من أهم مراكز الثقافة الإسلامية. وأتيح (للشهيد
الأول) عن طريق هذه الأسفار أن يندمج في أطر ثقافية مختلفة، ويعيش وجوهاً مختلفة من
الفكر، ويتفاعل مع الاتجاهات الفكرية المتضاربة، فكان على صلة وثيقة بالاتجاهات
الفكرية السُنيَّة وعلى معرفة تامة بآرائها وأفكارها.
* شيوخه وأساتذته:
يستطيع الباحث أن يلمس شخصية (الشهيد الأول) الفكرية من استعراض شيوخ الفكر والعلم
الذين اتصل بهم وأخذ عنهم وحضر مجالسهم منذ نعومة أظافره إلى أن انتقل إلى جزين
وأسس فيها مدرسته الشهيرة التي تعتبر الأولى من نوعها في هذه المنطقة.
* شيوخه في جزين:
في جزين مسقط رأس ا لشهيد تلقى شيخنا الشهيد مبادىء العلم والتفكير وأنس بحديث
العلم والعلماء ولازم مجالسهم، واعتنى بكل ما يتصل بشؤون الفكر والأدب، فدرس على
والده الشيخ (جمال الدين مكي) بن الشيخ محمد شمس الدين وتلقى عنه مبادئ العربية
والفقه.
وتتلمذ الشهيد كذلك في جزين على الشيخ (أسد الدين الصائغ) أبي زوجته وعم أبيه.
* شيوخه في الحلة:
هاجر الشهيد الأول إلى (الحلة) من (جزين) بجبل عامل، وهو بعد لم يتجاوز السابعة
عشرة من عمره فقد أجازه فخر المحققين بداره في الحلة أن يروي عنه بتاريخ 20 شعبان
سنة 751هـ وإذا علمنا أن ولادة الشهيد كانت سنة 764هـ، عرفنا أن بداية اتصال الشهيد
به كانت قبل أن يبلغ السابعة عشرة من عمره.
ولمس فخر المحققين من تلميذه الشاب بين مئات الطلاب الذين كانوا يحضرون دروسه نبوغاً
وألمعية لا تتوافران في غيره، فأدناه من نفسه وقرّبه من مجلسه، وصحبه في مجالسه
ودروسه، وحفه برعايته وعنايته، وأخذ يُثني عليه كلما جرى ذكره في مجلس أو كلما رأى
فرصة مناسبة بشكل لا يعهد من أستاذ كبير كفخر المحققين بالنسبة إلى تلميذ شاب في
هذا العمر.
ابن معية: من علماء الحلة الكبار ومن أعاظم تلاميذه العلامة الحلي، وأفخام مشائخ
شيخنا الشهيد.
(عميد الدين) و(ضياء الدين): من شيوخ الشهيد الأول، ومن فقهاء الحلة وعلمائها
الكبار، وهما السيد عبد المطلب بن السيد مجد الدين بن الفوارس والسيد ضياء الدين
عبد الله بن السيد مجد الدين بن الفوارس أخو السيد عميد الدين ينتهي نسبهما إلى
الإمام زين العابدين عليه السلام، وهما ابنا أخت العلامة الحلي (رحمه الله).
* شيوخه بالشام:
وفي الشام سنة 776 اجتمع الشهيد الأول لأول مرة بالحكيم المتأله الفقيه المحقق (قطب
الدين الرازي) البويهي تلميذ العلامة الحلي.
كلمات العلماء فيه:
وبإمكان القارئ أن يلمس مكانة الشهيد العلمية في نفوس الفقهاء من أساتذته وتلاميذه
والمتأخرين عنه مما ذكروا في شأنه في الإجازات والتراجم عند التعرض لذكر الشهيد.
وأهم ما يلفت النظر مما قيل في مدح الشهيد ما كتبه أستاذه (فخر المحققين) في حق
الشهيد، قال: الإمام الأعظم، أفضل علماء العالم، وسيد فضلاء بني آدم، مولانا شمس
الحق والدين محمد بن مكي ابن حامد (أدام الله أيامه).
ويقول عنه الشيخ محمد بن يوسف الكرماني القرشي الشافعي في إجازته للشهيد:
المولى الأعظم الأعلم، إمام الأئمة،صاحب الفضلين مجمع المناقب والكمالات الفاخرة،
جامع علوم الدنيا والآخرة.
ويقول الشهيد الثاني فيه: شيخنا وإمامنا المحقق البدل النحرير المدقق الجامع بين
منقبة العلم والسعادة ومرتبة العمل والشهادة، الإمام السعيد أبي عبد الله الشهيد
محمد بن مكي أعلى الله درجته كما شرف خاتمته.
وقال عنه المحقق الكركي في إجازته للشيخ علي بن عبد العالي «الإمام شيخ الإسلام،
فقيه أهل البيت في زمانه، ملك العلماء، علم الفقهاء، قدوة المحققين والمدققين، أفضل
المتقدمين والمتأخرين".
* آثار الشهيد:
خلف لنا الشهيد الأول رحمه الله بعده مؤلفات قيمة أحصاها بعض الباحثين إلى اثنين
وثلاثين كتاباً رغم كثرة مشاغله وضخامة المشاريع التي كان يقوم بها، من نشر
التشيُّع في سوريا ولبنان، وتعريف الشيعة إلى أقطاب المذاهب الإسلامية الأخرى.
ولئن عرف (الشهيد) بالفقه والأصول بين الفقهاء فقد كان واسع المعرفة بحقول العلم
الأخرى ولا سيما ما يتصل بالعلوم العقلية كالفلسفة والرياضيات.
* آثاره الفقهية:
1- اللمعة الدمشقية: رسالة فقهية جليلة، جمع فيها (الشهيد) أبواب الفقه، ولخص فيها
أحكامه ومسائله.
2- الدروس الشرعية في فقه الإمامية:
6- الألفية: تشمل على ألف واجب في الصلاة.
4- النفلية: رسالة تشتمل على ثلاثة آلاف نافلة في الصلاة.
5- القواعد والفوائد: كتاب جليل يضم ما يقرب من 600 قاعدة فقهية.
6- أربعون حديثاً: أكثرها في العبادات العامة.
* آثاره الأخرى:
العقيدة: رسالة صغيرة في العقيدة الإسلامية.
مزار الشهيد: زيارات.
المقالة التكليفية: وغيرها من الآثار القيِّمة التي لا مجال لتعدادها كلها هنا.
* شعره:
لم يقتصر الشهيد على الفقه والأصول والدراسات الإسلامية فقط. بل كان مع ذلك أديباً
كاتباً وشاعراً.
وشعره- وإن قلّ- يمتاز بالرقة ودقة التصوير والمسِّ المباشر للنفس وجمال التعبير
وجوده الأداء. ومنه قوله في المناجاة:
عظمت مصيبة عبدك المسكين |
في نومه عن مهر حور العين |
الأولياء تمتَّعوا بك في الدجى |
بتهجُّد وتخشُّع وحنين |
فطردتني عن قرع بابك دونهم |
أترى لعظم جرائمي سبقوني |
إن لم يكن لعفو عندك موضع |
للمذنبين فأين حسن ظنوني |