هناء نور الدين
إن تراث الزهراء عليها السلام الفكري، وغناه الثقافي، وأثره الحضاري يخترق حدود الزمان والمكان لترتشف من معينه الأجيال كل الأجيال زلال الإيمان الصافي من سلسبيل التوحيد... ويستضيئون من هديه المبارك آيات بينات تتلى آناء الليل وأطراف النهار... من كلماتها المباركة التي دوَّنها التاريخ واحتفظ بها في أرشيفه الضخم خطبتها الشهيرة التي تعتبر معجزة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام. وسنتناول في هذه المقالة مناسبة هذه الخطبة، والظروف التي دفعت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام إلى أن تقول كلمة الحق في حشد هائل من رجال ونساء أمتها... وما هي أبرز مضامين ودلالات هذه الخطبة؟ وما هو الأثر الذي تركته في نفوس الحاضرين؟
مناسبة الخطبة:
أولاً: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قد عيّن الإمام علياً عليه السلام خليفة وإماماً للمسلمين من بعده... لتنتهي مرحلة النبوة بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله ولتبدأ مرحلة وعصر الإمامة الذي تمثَّل بالإمام الأول الإمام علي عليه السلام. والأدِلة على إمامته من السنّة النبوية كثيرة أشهرها حديث الغدير، وحديث المنزلة، وحديث الدار، وحديث الثقلين و....
ثانياً: فدك أرض حجازية تقع على مقربة من مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وهي أرض زراعية غنية بمائهاونخيلها(1). وكانت ملكاً لليهود حتى السنة السابعة للهجرة، حيث أصبحت بعد هذا التاريخ داراً للإسلام وبعد أن انكشفت وتبينت مكائد اليهود ودسائسهم ومؤامراتهم ونقضهم العهود التي أبرمها معهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، وحين بدا سوء نواياهم واتصالاتهم مع المعسكر الوثني وخيانتهم لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله واشتراكهم في حرب المسلمين إلى جانب قوى الضلال، صمَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله على محاربتهم لأنهم أصبحوا خطراً فعلياً على الدولة الإسلامية التي ما زالت في أول نشأتها... وحين علم اليهود بتصميم النبي وإعلانه محاربتهم، استحوذ عليهم الذعر ودبَّ الفزع في نفوسهم قبل أن يسير إليهم الرسول بخيل أو رجال وقد طلبوا من رسول اللَّه الصلح تاركين له "قرية فدك". ولما كانت الأرض التي يفرُّ عنها أعداء الإسلام دون أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب ينطبق عليها حكم ملكية الدولة(2) في الإصطلاح الاقتصادي أو الأنفال في الاصطلاح الفقهي فقد أصبحت أرض فدك ملكاً للرسول صلى الله عليه وآله بصفته رئيس الدولة الإسلامية، وحكم مثل هذه الأرض ليس موضوعاً اجتهادياً. وإنما رسم القرآن الكريم حدوده وحدد أبعاده وقد ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ..﴾ (الحشر: 6 7).
ولكنَّ فدكاً لم تبقَ مجرد ملكية للدولة الإسلامية، فقد أمر اللَّه نبيَّه أن يهبها لبضعته فاطمة الزهراء عليها السلام وذلك تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ...﴾ (الإسراء: 26). وبما أن الزهراء عليها السلام تمثِّل طليعة قربى آل محمد ومن حضنها المبارك مثل الأئمة الأطهار سادات قافلة الوجود وهبها النبي صلى الله عليه وآله قرية فدك تأكيداً لمدلول التشريع الإلهي المبارك. وبمجرد أن ودّعت الأمة الإسلامية قائدها وحبيبها ومرشدها النبي محمداً صلى الله عليه وآله حتى أعلنت الحكومة الجديدة إعادة ملكية أراضي فدك للحكومة بعد أن كانت لفاطمة الزهراء عليها السلام بتشريع إلهي... إذاً هناك أسباب مباشرة وأسباب غير مباشرة دفعت الزهراء عليها السلام إلى أن تغضب وتنهض، وتدافع عن الحق المسلوب وهي في الحقيقة تدافع عن القرآن وتحمي الإسلام من السقوط فكيف تَمَثَّلَ وبرز موقفها؟ وما هي الرسالة التي بلغتنا إياها؟ وأيَّ زمان ومكان اختارت لتعلن معارضتها؟
الزمان والمكان المناسبان
المكان هو مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، والزمان وقت أداء الصلاة... حين يكون المسجد ممتلئاً محتشداً بالمصلين من الطبقات والشرائح الاجتماعية كافة... في ذهن فاطمة الزهراء قضية مهمة ومعارضة شديدة. أرادت أن تتحدث عنها وتبلغها لنظام الحكم الجديد وهي الإنسانة المعصومة العالمة هدفها الدفاع عن القرآن وصيانة شريعة الإسلام أولاً وآخراً، لقد تفاعل المجتمع كله مع فاطمة الزهراء عليها السلام... ورد في الخبر "لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة فدكاً وبلغها ذلك، لاذت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمَّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فثبطت دونها ملاءة، فجلست، ثم أنَّت أنَّة أجهش القوم لها بالبكاء فارتجَّ المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت الكلام بحمد اللَّه والثناء عليه، والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها"(3).
مميزات خطبتها: تميزت خطبة السيدة الزهراء عليها السلام بالفصاحة والبيان والبلاغة وقوة الحجج الدامغة وتقديم الأدلة والبراهين على صدق دعواها... وبما أنها فرع النبوة، انتهزت هذه الفرصة لتوضح للمسلمين المعارف الإلهية، وتبيان علل الشرائع والأحكام وأهم المسائل التي ركزت عليها في خطبتها:
* شرحت وحددت وبينت موقفها من الأحداث السياسية التي جرت بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وخصوصاً ما يتعلق بخط الإمامة.
* أوجزت في خطبتها أهم أصول وأركان العقيدة الإسلامية وركَّزت كلامها حول التوحيد والنبوَّة...
* تحدثت عن صفات اللَّه سبحانه وتعالى وعن خصال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وجهاده ومعاناته في سبيل انقاذهم من ظلمات الجاهلية إلى عزِّ ونور وحياض الإسلام العزيز.
* شرحت علل الشرائع والأحكام الإلهية وبيان مقاصدها وأهدافها التشريعية.
* شرحت الواقع السياسي، والفوضى السياسية، بعد وفاة رسول اللَّه.
* ناقشت مسألة إرثها من رسول اللَّه (فدك) مناقشة علمية دقيقة مدعمة بالشواهد والأدِلة القرآنية حتى أدهشت الحاضرين واستنهضتهم وأججت مشاعرهم.
إن عمل الزهراء عليها السلام وجهادها وبيانها دروس للنساء والرجال ولكل زمان ومكان في الثورة والاحتجاج في وجه الباطل ومقاومة شتى أنواع الظلم والعدوان بقوة العقيدة والمنطق الإسلامي القرآني... كيف بدا ذلك؟
هذا ما سنتعرف عليه في العدد المقبل!
(1) الاحتجاج، للطبرسي.
(2) اقتصادنا، الشهيد محمد باقر الصدر.
(3) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد، محمد كاظم القزويني.