الشيخ إسماعيل حريري
تميّزت شخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بالروح الجهادية فكان إمام المجاهدين وسيدهم ومرشدهم وقائدهم في كل عمل جهادي كانوا يمارسونه تحت قيادته وإمرته. وقد ذكر أهل السِّير أن جميع ما غزا النبي صلى الله عليه وآله بنفسه ست وعشرون غزوة، وأن سراياه كانت ستاً وثلاثين سرية، وقاتل صلى الله عليه وآله في تسع غزوات هي: بدر وأُحد والخندق وبنو قريظة وبنو المصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف (راجع بحار الأنوار، ج19، ص172 – 174- 186). ونحن هنا ذاكرون شذراتٍ من هذه الروح الجهادية للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله ضمن نقاط:
* المجاهدة بكل قوة
النقطة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وآله لم يألُ جهداً في جهاد العدو بكل ما آتاه اللَّه من قوة في سبيل نشر الدين الحنيف وإعلاء رايته وفي ذلك يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء يوم الجمعة: "... وأنّ محمداً صلى الله عليه وآله عبدُك ورسولك أدّى ما حمّلته إلى العباد وجاهد في اللَّه حق الجهاد" (الصحيفة السجادية، ص325). ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في بعض كلماته في نهج البلاغة: "... وأشهد أنّ محمداً عبدُهُ ورسوله، دعا إلى طاعته، وقَاهَرَ أعداءه جهاداً على دينه، لا يثنيه عن ذلك اجتماعٌ على تكذيبه والتماسٌ لإطفاء نوره" (نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، ج2، ص130). وفي كلامه عليه السلام دلالة واضحة على الروح الجهادية العالية التي كان يتمتّع بها النبي صلى الله عليه وآله بحيث لم يكن ليتراجع أو ينثني عن مواصلة طريق الدعوة والجهاد في سبيل الدين الحنيف بالرغم من كثرة وخشونة ما ووجه به من قبل المشركين. وممَّا يؤكّد ذلك بشكل أوضح قوله عليه السلام أيضاً في نهج البلاغة: "ونشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، خاض إلى رضوان اللَّه كل غمرة، وتجرّع فيه كل غصّة، وقد تلّون له الأدنون، وتألّب عليه الأقصون، وخلعت إليه العرب أعنَّتها، وضربت لمحاربته بطون رواحلها، حتى أنزلتْ بساحته عداوتها من أبعد الدار وأسحق المزار" (المصدر السابق، ص165، 166). فإنّ العرب قد جمعت جموعها لمحاربة الدين الجديد والنبي الذي جاء به، فلم تتخلّف قبيلة من قبائلهم عن محاربته صلى الله عليه وآله حتى تجمعت له من كل حدب وصوب، فكانت معركة الأحزاب التي نصر اللَّه تعالى فيها نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وفي كل ذلك لم يكن النبي صلى الله عليه وآله إلا ذلك الإنسان الشامخ بإيمانه المجاهد بنفسه وماله وأهل بيته، ولم يكن ليكون غير ذلك وهو القائل في مناجاته لربّه "إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي" (سيد المرسلين، ج1، ص558). وقد قالها في سفره إلى الطائف ودعوته الناس فيها إلى اللَّه الواحد الأحد فواجهوه بصبيانهم الذين راحوا يرشقونه بالحجارة حتى أُدميَ صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله.
* بث الروح الجهادية
النقطة الثانية: بثّه هذه الروح الجهادية في أصحابه بل في أمّته على مَرِّ التاريخ. أما في أصحابه فقد كان صلى الله عليه وآله يحثهم على قتال العدو والثبات في وجهه وأنهم إما أن يصيبوا نصراً أو شهادة وكلاهما فوز ومن ذلك:
1 - لمَّا همّ النبي صلى الله عليه وآله بالخروج إلى بدر استشار أصحابه في ذلك، فلمَّا أشار عليه الأنصار بالحرب وأنه لو خاض بهم البحر لخاضوه معه ولن يتركوه في ذلك أبداً فرح رسول اللَّه بذلك وقال: "سيروا على بركة اللَّه، فإنَّ اللَّه وعدني إحدى الطائفتين، ولن يخلف اللَّه وعده، واللَّه لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان..." (بحار الأنوار، ج19، ص218). ولذلك كان المؤمنون في معركة بدر يتسابقون إلى القتال علّهم يفوزون بالشهادة في سبيل اللَّه، ولذا نرى أنه لمّا أصيب عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب في المبارزة أُتيَ به إلى النبي صلى الله عليه وآله فاستعبر فقال؛ يا رسول اللَّه ألست شهيداً؟ قال: بلى، أنت أول شهيد من أهل بيتي" (المصدر السابق، ص225).
2 - في غزوة حنين التي حصلت بعد فتح مكة انهزم المسلمون في بادئ الأمر، بسبب الخدعة العسكرية التي قام بها المشركون من قبيلتي هوازن وثقيف ممّا أدّى إلى فرار المسلمين من أرض المعركة وكانوا يومئذ إثني عشر ألفاً وتركِهِم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لم يثبت معه إلا قلة من بني هاشم، هنا صاح النبي صلى الله عليه وآله بأعلى صوته وهو على بغلته: "يا أنصار اللَّه وأنصار رسوله، أنا عبد اللَّه ورسوله" ثم اندفع ببغلته إلى ساحة القتال وثبت ومن معه في وجه العدو حتى عاد المنهزمون من المسلمين لمّا ناداهم العبَّاس بن عبد المطلب بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وذكرهم ببيعة النبي صلى الله عليه وآله تحت الشجرة. والنبي صلى الله عليه وآله يناديهم لتقوية معنوياتهم: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب". (راجع سيد المرسلين للشيخ جعفر السبحاني، ج2، ص518). وأما بثّه الروح الجهادية في أمّته صلى الله عليه وآله فمن خلال ما أكّد عليه من خطر الجهاد وأهميته في قيام هذه الأمة ومن ذلك:
1- قوله صلى الله عليه وآله فيما رواه عنه حفيده الإمام الصادق عليه السلام: "جاهدوا تغنموا" (الكافي، ج5، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد، ص8، ح14).
2 - ما رواه أيضاً مولانا الصادق عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: "إن جبرائيل أخبرني بأمر قرَّت به عيني وفرح به قلبي قال: يا محمد من غزا غزاة في سبيل اللَّه من أمتك فما أصابه قطرة من السماء أو صداع إلا كانت له شهادة يوم القيامة" (المصدر السابق، ح8).
* أهل البيت طليعة المجاهدين
النقطة الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وآله كان في جهاد عدوّه يقدِّم أهل بيته ليكونوا طليعة المجاهدين وقدوة لغيرهم في مغالبة العدو، كما فعل ذلك في معركة بدر حيث برز من معسكر قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة فبرز إليهم ثلاثة من الأنصار فبعث إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن ارجعوا فرجعوا، وكره أن يكون أوَّل الكرّة بالأنصار ثم أمر عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وعمّه حمزة، وابن عمّه علياً عليه السلام بالبراز فبرزوا وقتلوا خصومهم وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام في بعض كتبه إلى معاوية بن أبي سفيان: "وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إذا احمرّ البأس وأحجم النَّاس قدَّم أهل بيته، فَوَقَى بهم أصحابه حرَّ السيوف والأسنّة فقُتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقُتل حمزة يوم أحد، وقُتل جعفر يوم مؤتة" (نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، ج3، ص8 و9).
* الثبات
النقطة الرابعة: أنه صلى الله عليه وآله لم يكن ليفرّ من أرض المعركة مهما اشتدت الحرب، بل كلّما حمي الوطيس وقامت قيامة الحرب كلما ثبت وصبر وتحمّل، حتى أنه صلى الله عليه وآله في معركة أحد شجّ وجهُهُ وكسرت رباعيته كما في أمالي الشيخ المفيد (بحار الأنوار، ج20، ص71، ج8). ورُوي أنه صلى الله عليه وآله قال في غزوة حنين لمّا انهزم المشركون: "الآن حمي الوطيس، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلّب" (المصدر السابق، ج21، ص167). بل كان المسلمون يتّقون به صلى الله عليه وآله إذا اشتدت الحرب ولا يكون أحد منهم أقرب إلى العدو منه صلى الله عليه وآله. وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "كنَّا إذا احمّر البأس اتقينا برسول اللَّه صلى الله عليه وآله فلم يكن منّا أقرب إلى العدو منه" (نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، ج4، ص61).
* الأخلاق الجهادية
النقطة الخامسة: أخلاق النبي صلى الله عليه وآله في جهاد العدو، ولعلّ هذا من أهم الدروس التي تُعطى في الحياة وتظهر منه عظمة الإسلام ونبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله. فقد روى الشيخ الكليني رضي الله عنه بإسناده الصحيح عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إذا بعث سريّة دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه ثم قال: سيروا بسم اللَّه وباللَّه وفي سبيل اللَّه، وعلى ملّة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثّلوا، ولا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً ولا امرأة، وأيما رجلٍ من أدنى المسلمين وأفضلهم نظر إلى أحدٍ من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام اللَّه..." (الكافي، ج5، باب وصية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام في السرايا، ص30، ح9).
ولا يمكن في هذه العُجالة التوقف عند كل ما ورد في هذا الحديث الشريف لكن الناظر فيه يعرف أنَّ الإسلام لم يكن صلى الله عليه وآله حتى في جهاد العدو يبغي الفساد في الأرض بل الاصلاح والصلاح للعباد والبلاد. ويناسب المقام الوقوف عند عبارته صلى الله عليه وآله الأولى "سيروا بسم اللَّه وباللَّه وفي سبيل اللَّه وعلى ملّة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله...". فإن النبي صلى الله عليه وآله كان يتلو هذا الدعاء بمحضر السرية وأميرها ليركّز في نفوسهم أن غزوهم وجهادهم للَّه تعالى وفي سبيله، وعلى شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله، وليس طلباً لدنيا ولا سعياً وراء حطامها، فإن ذلك ليس من شأن المؤمن أن يطلبه في جهاده، فإذا قاتل، قاتل وعينه بعين اللَّه، وإذا قُتل، قتل لأجل اللَّه، وإذا استشهد كانت شهادته في سبيل اللَّه تعالى. وهو صلى الله عليه وآله في كل ذلك يريد أن تكون نيّة المجاهدين خالصة لوجه اللَّه تعالى وطلباً لمرضاته.