الشيخ محمد علي خاتون
* بشرى الولادة الحسينية:
في بيت من بيوت الإيمان والتقى كانت ولادة السيد عباس الموسوي المنتمي بأبويه إلى بيت النبوَّة، ولم يكن الارتباط بالبيت النبوي مجرد ارتباط قسري، وإنما كان ارتباطاً بالعاطفة والعمل... وبالأخص تلك العلاقة بسيد الشهداء، الذي كان يعيش في وجدان الأبوين فكانت الأم تقرأ العزاء بنفسها، من بيت إلى بيت، على حب أهل البيت عليهم السلام وكان الأب يقيم مجالس العزاء كل ليلة جمعة في بيته، حيث يحضر هذه المجالس المحبون الذين يتقربون إلى اللَّه بحب أوليائه. حملت به والدته في أواخر العام 1951... ويرزق الأبوان بهذا الصبي ويطلقان عليه ذلك الاسم المبارك، الذي طالما ذُكِرَ في مجالسهما كخير ناصرٍ لخير قضية.
* شهيدٌ على أعتاب الشهداء:
أحبَّ السيد عباس الإنخراط في المقاومة باكراً وكانت الخطوة الأولى التي لا بدّ منها هي القيام بدورة عسكرية، ولأن الأمر كان جدِّياً في نفس السيد عباس فقد وجد سؤاله جواباً عن مكان إقامة دورات عسكرية في الشام، ويذهب السيد عباس مع أحد أصحابه قاصدين الشام ولكنهما لم يتمكنا من العبور عند نقطة الحدود بسبب المعاملات الرسمية التقليدية، وحيث لم يسمح لهما بإكمال الطريق، قرر صاحبه الرجوع إلى بيروت... فيما كانت المجازفة من السيد عباس حين عزم على التوجه إلى الشام عن غير نقطة المصنع فمشى سيراً على قدميه في الجرود القريبة من النقطة بحيث لا يراه أحد، وأخذ يجدُّ السير تارةً على قدميه، وأخرى على متن سيارة عابرة، حتى وصل إلى مكانه المحدد.
* مع السيد موسى الصدر كان البدء
لم يكن اعجاب السيد عباس بالإمام الصدر بلا مقابل ومن دون مبادلة... بل كان هناك اعجابٌ كبير من قبل الإمام بذلك الشاب اليافع حيث كان يتلمس فيه معاني الفضيلة من جهة، ومعاني الجهاد والتضحية من جهة أخرى مما دفعه ليعطيه اهتماماً خاصاً استحقه بجدارة لأنه استطاع أن يتجاوز همه الشخصي ليحمل هموماً أكبر بكثير... لم يكن الوضع الاجتماعي والثقافي لمدينة صور الساحلية يؤهلها لتكون مدينة لتلقي العلوم الدينية... وكان لا بد للرحلة العلمية أن تكمل طريقها إلى مكانٍ آخر... وكانت هذه فكرة الإمام الصدر الذي أيقن أنه لا بد من إكمال المسيرة العلمية للسيد عباس... بل لا بد من الذهاب إلى النجف والتعرف على كل مظاهر العلم في جوار أمير المؤمنين... وقام السيد الصدر وقتها بالكتابة إلى صهره وابن عمه آية اللَّه الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر رضوان اللَّه عليه موصياً إيَّاه بالسيد عباس، وفي النجف الأشرف حط السيد عباس رحاله سنة 1969 وهو في السابعة عشرة من عمره، كانت لسماحة آية اللَّه العظمى السيد محمد باقر الصدر رحمه اللَّه مكانة علمية بارزة في الحوزة العلمية وحضور فكري قوي في الساحة الإسلامية بشكل عام وموقف عملي متميز على المستوى السياسي...
* اللقاء الأول بين العِمّتين الشهيدتين (راغب والعباس)
في تلك المرحلة وبعد إقامته مدة أكثر من ثلاث سنوات متواصلة في النجف تعرَّف السيد عباس إلى رفيق دربه الشهيد السعيد الشيخ راغب حرب وكأن سراً من الأسرار جمع هذين العلمين الشهيدين في العلم والعمل وفي الجهاد وأخيراً في الشهادة حيث استشهد السيد في الذكرى السنوية لشهادة شيخ الشهداء. كان الشيخ راغب يعيش في قلب السيد عباس والعكس صحيح. لقد كان التعرف إلى أحدهما يعني التعرف إلى الآخر نظراً إلى ما يربطهما من مواصفات ومؤهلات عظيمة ولقد شكل هذان العالِمان محور عمل واسعاً فيما بعد كانا قد بدآه في النجف حيث التدرج في التحصيل العلمي.
* انتصار الثورة في إيران بنظر السيد الشهيد:
ينظر سيد شهداء المقاومة الإسلامية إلى الثورة الإسلامية وهو على ثقةٍ كاملة بالانتصار، وانتصرت الثورة ووصل صداها إلى كل العالم، وكان للحوزة العلمية دور كبير في إيصال الثورة الإسلامية إلى هذا الانتصار. وهذا ما كنا نراه من خلال التفاعل الجماهيري مع الثورة حيث كانت حوزة الإمام المنتظر عجل الله فرجه هي الملتقى لأولئك الذين أحبوا الإمام وثورته المباركة.
* أثر استشهاد السيد باقر الصدر في مسيرة السيد الشهيد:
وكان صدى استشهاد الأستاذ (السيد محمد باقر الصدر) عند تلميذه السيد عباس الموسوي كبيراً. فإنه كان في نظره الأستاذ والمربي والموجه، كان السيد عباس في حله وترحاله في إقامته في النجف وفي عمله التبليغي في لبنان يرجع إلى أستاذه الكبير. وفهم السيد عباس رسالة أستاذه بوعي وكيف ينبغي أن يذوب في حركة الإمام كما أمر الأستاذ وذابت مرجعيته وآراؤه وأفكاره وقيادته في مرجعية وآراء وأفكار وقيادة الإمام الخميني رضي الله عنه.
* السيد وحزب اللَّه بداية البدايات:
كان السيد الشهيد فعلاً هو أحد المؤسسين للتجمعات العلمائية قبل سنة 1982، ثم كان أحد الأركان الأساسية في عمل هذه التجمعات وأحد أبرز المحركين لها، لتقوم بدورها الفعال في أداء التكليف. لم يغب السيد عباس الموسوي عن أي هيئة قيادية لحزب اللَّه منذ تأسيسه، بل كان على الدوام أحد أعضاء الشورى الأساسيين يشارك بفعالية في صنع القرارات وفي تنفيدها وبالإضافة إلى ذلك عهد إليه بملف الثقافة والإعلام، وبقي فترة طويلة معنياً بملف العلماء. وقد أثمرت جهوده التي بذلها في مختلف الميادين مجموعة من الأنشطة المتميزة، كإصداره لجريدة العهد، حيث كان هو المنفذ لتهيئة وإعداد انطلاقتها الأولى، إلى مطبوعات أخرى.
* سنخدمكم بأشفار عيوننا
أثناء فترة تسلمه الأمانة العامة للحزب بعد أن استعفى منها مراراً، قام بزيارة إلى بيروت، ففي داخلها فقرٌ قد لا يراه الإنسان العابر ولكن الإنسان الذي يتمعن يرى ذلك. كما كانت هناك كوارث في منطقة البقاع قد أحدثتها انهيارات ثلجية، وذلك من جراء تساقط الثلوج بغزارة، حيث طُمرت بيوت كثيرة، وفي أكثر من مكان، وهذا ما أودى بحياة الكثيرين وحيث لم يكن ممكناً له أن يذهب إلى البقاع ليكون هناك، مع أهل المنطقة فقد أوعز إلى الأخوة العاملين أن يقدموا على جناح السرعة كل أنواع المساعدة للناس، وحيث لم تكن الأمور المالية متيسرة، فقد اضطر إلى استدانة مبالغ مالية للقيام بذلك. هذه المبالغ التي سُئل عنها يوم ذاك، وقالوا له: "كيف تستطيع أن تسدِّد هذه المبالغ فيما بعد؟ افترض أن الأخوة في الشورى لم يقبلوا بأن تدفع هذه المبالغ للأهالي المنكوبين؟ فقال: إنني اعتبرها ديناً شخصياً عليَّ وأنا أسدد ذلك المبلغ شهرياً من راتبي الذي يقدمُ لي". وفعلاً، قدِّمت يومها من قبل الأخوة إحدى أعظم التضحيات في تاريخ المنطقة، حيث خاطر الكثيرون بأرواحهم من أجل الوصول إلى المنكوبين ومد يد المساعدة لهم في محنتهم، بعدما تركتهم السلطات الرسمية من دون الالتفات لهم وسوف تبقى هذه المسألة محفورة في الوجدان إلى ما شاء اللَّه أوَليس هو القائل: "سنخدمكم بأشفار عيوننا".
* شهادة أيقظت أُمة:
ليلة الأحد أي ليلة السادس عشر من شباط عام 1992 اتصل الأخوة بمنزل السيد، يريدون أن يعدِّلوا رأيه إن كان فعلاً يفكر في الذهاب إلى جبشيت لمناسبة الذكرى السنوية لشهادة الشيخ راغب حرب. زوجة السيد أخبرتهم أنه مريض ويشعر بألم شديد، ورغم أن هذا الخبر ليس جيداً بحد ذاته، إلاَّ أن الأخوة استبشروا بذلك باعتبار أن المرض سوف يمنعه من الذهاب، فلذلك ناموا مطمئنين. إلا أنه في الصباح الذي لم يكن الأخوة يفكرون فيه بأنه سوف يكون على موعد مع رحلة السيد الشهيد، وهو آخر صباح يشرق عليه في بيروت استيقظ باكراً. وبعد أن صلى دعا زوجته لأن تتهيأ. وهي كانت على موعد مسبق وودع أولاده وذهب الموكب يخترق الجنوب ليصل إلى جبشيت وذهب الموكب إلى هناك والسيد في قمة البشرى. كان كلامه يومها متميزاً في انطلاقته بالحديث عن أمير المؤمنين. إنه يريد أن يقول شيئاً للناس لم يدركوه. بعد أن غادر الموكب جبشيت بعد زيارة قبر الشيخ راغب وبقية الشهداء، إخترق قرى المنطقة ووصل إلى مشارف بلدة تفاحتا، حيث تحققت للسيد شهادةٌ قلَّ نظيرها. عندها أدرك الناس أن السيد عباس كان يخاطبهم من قلب قد زالت أمامه كل الحجب فلم يعد يخفى عليه شيء، وهو بشهادته كان مكملاً لما أوصل إليه أمته في حياته: "حقاً إنها شهادة أيقظت أمة".