ندى بنجك
في زماننا، كما لو أنّ الأرض قبلهم بلا ورد ولا عشب، والتراب بلا عبق، والصباحات بلا ندى، والكروم بلا ثمر، والشمس بلا ظلال.
كما لو أن القرى بلا حكايا، والبيوت بلا مصابيح، والوجوه بلا أسماء، والدروب بلا عناوين.
قبلهم ، كانت الأيام بحاجة إلى حياة، والحياة إلى هدف.
لم يكن الحلم سوى مساحة في المنام، ولم يكن الدم سوى ما اصطبغ فيه من لون، ولم يكن لغياب الروح عن الجسد سوى توصيف واحد، الموت.
تعرّفت الأرض إليهم فتنهّدت، واستدلّ الفجر إلى أنفاسهم، فأعلن صلاته.
هم رجال بأسماء لها إيقاع الفصول. تغيّر وتبدّل في الأرض بحسب قوانين الطبيعة، وما يحتاجه الزمن من تاريخ، والتاريخ من أمجاد. ولهم قلوب لم تعرف سوى نبض الحسين عليه السلام، تقطر في أجسادهم دمعة دمعة، وعشش في الحنايا مثلما يعشش الضوء في حنايا الزيتون، لا تراه، لكنك تدرك أنه مبارك وقدسيّ، ومثلما تسري أصابع الشمس في مدارات الصباح، ليس بإمكانك أن تستدل إلى بداية النهار إلّا بها.
رجالٌ من هذا الزمن، ولكل زمن. تشعر كما لو أن الله قد فتح أبواب الجهاد في هذا الزمن لأنهم أولياؤه، وخاصّته، ورايته ونصره.
ماذا كنا لو لم يكونوا؟! تماماً كما لو أنك تخال البحر بلا موج، والمعركة بلا رصاص.
نعرف أنهم قادة، في المقاومة وفي الشهادة. ونعرف أنهم قد رصفوا بالعشق والصدق، معنى القيادة.
* شيخ شهداء المقاومة
ماذا كنّا لو لم يكونوا؟
الشيخ راغب حرب... من وُلد في زمانه، ومن وُلد بعده، ومن سيولد فيما بعد، لن يستطيع أن يفتح كتاب العنفوان إلّا من خلال صوته، ولن يعرف معنى البساطة إلّا من خلال روحه العاملية، وليس بإمكانه أن يعرف فنون قهر العدو إلّا إذا تسجّل في مدرسته الترابية. هو الشيخ راغب، من يدلّك كيف تلغي حصاراً بصلاةٍ في مسجد، وكيف تهزأ من الأسر بضحكةٍ في غرفة التحقيق، وكيف تقتل عدوّك ليس برصاصة وإنما بموقف وكلمة.
الشيخ راغب حرب، رجل من رجالات الصرخة الأولى في مرحلة الحسين عليه السلام الذي نبت مقاومةً على امتداد هذا الزمن. هو أذان في مسجد، ومسجد في كل قرية من قرى الجنوب، ومعول لم ينفكّ من بين أثلام الأرض، وتناغم عجيب مع وجوه الفلاحين، وثورة ترتدي صمت الخميني قدس سره، تشعل النار في جمر الأرض المضطهدة.
للشيخ راغب حكايات على امتداد الأرض وبلون ترابها، لم يعش كثيراً، لكنه سيعيش طويلاً، فالمقاومة إنما هي تاريخٌ وذاكرة، والشهادة حكايةٌ تبتدئ عندما يلامس الدم وجه الأرض، فكيف وهو القائل: "دم الشهيد إذا سقط فبيد الله يسقط".
*سيد شهداء المقاومة الإسلامية
ماذا كنّا لو لم يكونوا؟
السيد عباس الموسوي.. فدائي بنبض وليّ، ثائر جمع في عينيه أحزان الأرض، هاشميّ سجّل في عين الشمس، أنّه لا يريد من حياته إلّا جهاداً، ومن جهاده إلّا غفوة الشهادة.
.. وصار السيد عباس الموسوي للمقاومة أميناً، بعد أن آمنت السماء والأرض، بأنه إشراقة في هذا الزمن، لوجه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
من عرف السيد عباساً قد عرف قول الإمام علي عليه السلام: "يا دنيا غرّي غيري".
زاهدٌ هذا الهاشمي إلى حدٍّ لم يمتلك فيه من متاع الدنيا أيّ شيء على الإطلاق. طعامه فتات خبز يبتلّ بصنف واحد. سيارته بيته أينما حلّ. يجول في بلدان الأرض المستضعفة، يدخل أكواخ الفقراء، يلقي الخبز والشمس، ثم يعود إلى حيث انزرع كسنديانة لا تغادر، إلى المحاور، لا يتفقّد وحسب، وإنما يتمرّغ بتراب الميدان، مصلّياً وداعياً وموجّهاً ومواكباً، ومشاركاً، حتى حنّ عليه الزمان من كثرة الحنين، وهو يهمس في لمحة الفجر: "اللهم ارزقني شهادةً قلَّ نظيرها، يتفتّت فيها جسدي وتنال كلَّ جارحة من جوارحي ما تستحقه".
*القائد الجهادي الكبير
ماذا كنّا لو لم يكونوا؟
عماد مغنية "الحاج رضوان".. لأنه شعلة، لم يظهر إلّا مظلّلاً بأنوار الله. كان قائداً على امتداد الأرض والوطن.. صانع الزمان في كلّ مكان. قاطف الغيم وزارعه أشجاراً من ريحان. كلّ ميادين النصر هندمها بيديه، غرس راياتها، ولم ينم رمشة عين. وهل بإمكانك أن تجمع البحر، حتى تخبر عن سجلّاته؟ أو تتمكّن من اكتشاف السحر في اشتهاء العطر، حتى تعرف كم له من سرّ؟!
وحدها الأرض التي حملت خطاه، تعرف أثقاله وأسراره. وما انكشف في ملامح دمه. إنّه ميراث صعب، وأمانة حتى أوان القيامة. انغمس اسمه في عين الشمس "الساحر" كما انغمس في عمق الأرض دمه "واهب النصر انتصارات".
وحده المشهد يخبرك ماذا فعل بالأرض حينما أشار بيده لحظة اقتحام، وماذا فعل بالشهادة حينما نام في جنّته. عليك فقط أن تجيء إلى روضة الشهيدين، وتقف جنبه عند الضريح. حاول أن تنظر من حولك، لن ترى شهداء يحيطون به، سوف ترى تاريخ المقاومة من أول قبضة.
هنا ينام بطل عملية بدر الكبرى، وهنا بطل عملية علمان، وهنا بطل عملية سُجُد، وآخر الدبشة، وآخر مرجعيون، وهنا ينام ضوءٌ من قلب السيد حسن "هادي".. إذاً عندما حقّ الحضور في سرير الشهادة، أعلنت قيامة النصر من حوله مواجهة مواجهة. هذا الفاتح الاستثنائي يُعرّفك إلى كلّ شيء من دون كلام. يخبرك أن المنازل التي نسكن نحن هي الأضرحة، وأن ما قد يتراءى لك أضرحة، هو المنازل التي نشتهي.
* ماذا كنّا لو لم يكونوا؟
قادة من كثرة المقاومة في حياتهم، تجاوزوا أرض القيادة. ومن كثرة القيادة في دوران العشق، كان لا بدّ من شهادة. هكذا يكتمل التاريخ. الثورة دائماً على موعد مع الدم، ودم القادة إلى آخر الزمان يمدّ الأرض بالتراب والمطر.