الشيخ محمد خاتون
قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ لقد بنيت أحكام الإسلام ومفاهيمه الأخلاقية على قاعدة التوحيد الذي جاء إلى المنظومة الفكرية والعقائدية الموجودة لدى البشر فأسس أركانها وفقاً لذلك التطور كما أتى إلى منظومة العبادات والمعاملات والسلوكيات فقومها وفقاً لذلك التطور أيضاً. ولم يكن الحج بدعاً خارجاً عن تلك القاعدة، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ فقد صيغت أحكام الحج على أساس تلك القاعدة الإلهية وكان من الطبيعي للأحكام والتشريعات أن تحقق غرضها مع التفاوت بين فرد وفرد في تحقيق هذه الأغراض وذلك بحسب التفاوت في درجات الإخلاص بين فرد وآخر. غير أن هناك قاعدة رسمها الإسلام وفقاً للرؤية الحقيقية التي يمتلكها عن الإنسان وما يحمل من قيم ومدركات وتأثيرات وهي أن تطهير الباطن الذي هو الهدف العالي للأحكام والتشريعات والمفاهيم لا بد أن يمر من خلال تطهير الظاهر. وبالتالي فإن قاعدة الأتقوية التي يتفاضل الناس على أساسها، لا بد لها من معبر ليصل إليها وليس هذا المعبر إلا عبارة عن أشكالٍ ومظاهر وظواهر تعتبر مطية للوصول إلى الغايات.
*نقاط التوحد
وبعد هذه المقدمة نأتي إلى هذا المظهر المتوحد بالشكل الذي نراه في هيئة الحجاج الوافدين إلى بيت الله الحرام حيث المناسك، والذي يمكن أن نرى فيه مجموعة من نقاط التوحد والمشابهة... فهناك الملبس الواحد الذي لا يختلف فيه غني عن فقير ولا حاكم عن محكوم ولا أبيض عن أسود ولا عربي عن أعجمي... وهناك المناسك الواحدة التي لا تختلف بين إنسان وإنسان آخر فليس لكل إنسان منسكه الخاص وإنما هي مجموعة من المناسك قد جعلت لكل الوافدين على الله... وهناك الأداء الموحّد حيال هذه المناسك والذي لا يختلف فيه فرد عن فرد أيضاً، حيث لا تكون هناك كيفيات متعددة للأداء وإنما هناك أداء واحد يقوم به الجميع. وهناك الوحدة الزمانية ولو عرفاً بمعنى أن لا يكون الناس حين قيامهم بالأداء متفاوتين في الوقت، بل يجب أن يكون الوقت الذي تقع فيه المناسك واحداً عرفاً... فإذاً، هناك توحد في الزمان وتوحد في المكان وتوحد في الهيئة، وهذا ما يضفي على الحج لوناً خاصاً لم يكن لغيره من العبادات فإذا كان الفرد غنياً فإنك قد تميزه إذا كان يمارس عبادة الصلاة مثلاً إذ قد تبدو ثيابه مظهرة لغناه وقد يكون الحاكم متميزاً ولو في موقعه في الصف الأول في جماعة الصلاة وهكذا إلى باقي العبادات وإلى باقي المميزات أيضاً ... ولكن في عبادة الحج ليس هناك ما يدل على فرادة إنسان عن غيره بأي خصوصية من الخصوصيات.
*ما يحققه الحج للإنسان
إذا أردنا أن نعيش عمق هذه المسألة فإن القضية تتلخص وترتبط أولاً وآخراً بأن هناك إلهاً وأن هناك عبداً لا يمتلك إلا الإطاعة لأوامر إلهه وهذا ما نراه جلياً في قوله عز وجل: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ فهناك طرفان: فالطرف الأول هو الإله، والطرف الثاني هو العبد. والطرف الأول هو فوق ما نقول وما نحب، ولكن الطرف الثاني هو الذي ينبغي أن يكون كما يقول الله وكما يحب الله له أن يكون. وهذا ما لا يمكن أن يحصل إلا إذا تخلى الإنسان عما يحول بينه وبين ربه ومن جملة ما يحول عن ذلك هو المظهر الخارجي للإنسان الذي لو فكر المرء قليلاً فيه لأدرك أنه مظهر متغير لا محالة، وأن هذه الهيئة التي سوف تدفن في التراب لن يبقى منها إلا هذه الروح التي إما أن تكون روحاً طيبة مطمئنة بما عند الله أو تكون نفساً خبيثة حجبتها أوحال الدنيا عن ربها عز وجل... وهذا يمكن أن يحققه الحج للإنسان من زاويتين:
الأولى: هي الزاوية الفردية التي يمكن أن يرى فيها الفرد مجموعة من الأحكام المتعلقة بالحج، كالوصية وغيرها. أو التي هي أجزاء من عبادة الحج كاللباس والطواف والسعي إذا فهمها المرء بشكل معمق.
الثانية: هي الزاوية العامة التي ينظر فيها المرء إلى هذا المشهد فيستحضر صورة الحشر والقيامة حيث لا تكون للإنسان أي ميزة ظاهرية وشكلية ولا ينتفع بشيء مما كان زينة في الحياة الدنيا قال تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ وقال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
*حقائق في الحج
وعلى هذا فإننا نخلص من هذا المظهر المتوحد للحج إلى مجموعة من الحقائق:
أولاً: أن الحج المؤمن ينبغي أن لا يكون هناك تفاوت بين أفراده على مستوى القيم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "الناس سواسية كأسنان المشط" والحج معلم من معالم هذه المسألة إذ يساوي أو يكون دافعاً للمساواة في الحقيقة والواقع.
ثانياً: إن هذا المظهر العبادي يجوهر في الحقيقة أساس العبادة الذي هو توجه من المجموع البشري المخلوق اتجاه الله الخالق كتعبير عن شكرٍ على ما أعطى وعن خوفٍ لما يأتي.
ثالثاً: إن هذا المشهد في واقعه السياسي والاجتماعي هو مشهد الأمة الواحدة التي تطيع ربها في كل ما أمر به ونهى عنه فتتحول من خلال هذا المشهد إلى أمة متوحدة في الغايات والأهداف، وبالتالي فإن من ينظر إلى هذه الأمة نظرة بغضٍ قد يعقبها كيد ومكر فإنه أمام هذا المشهد يصيبه الخوف من هذه القلوب المجتمعة في الواقع على أهدافها كما اجتمعت في الظاهر على أشكالها.
رابعاً وأخيراً: إن حقيقة الملكية هي لله عز وجل وإن الإنسان لا يملك شيئاً، بل إن هناك مجموعة من الاعتبارات الدنيوية هي التي جعلت فلاناً مالكاً وآخر حاكماً وهكذا... ولكن الواقع أن الأمر لله، وأن الحكم لله، وأن المبدأ لله، كما أن المعاد إلى الله سبحانه وتعالى، وكأن هذا الجمع يتهيأ ليشهد قول الله عز وجل ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور﴾ ةوكأن هذا المشهد تمهيد لذلك البيان الإلهي، حيث يقول الله عز وجل ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾.