مقابلة مع سماحة العلامة السيد جعفر مرتضى
إعداد منهال الأمين
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كما هو قدوة وأسوة حسنة للعالمين في السيرة والسلوك والقيم التي أرسى ركائزها، فإنه قدوة كذلك في علاقاته الاجتماعية، وخاصة الزواج، الذي فيه الكثير الكثير من العبر التي يحتاج المرء إلى تقفي أثرها، واستخلاص الدروس منها. وقد تزوج صلى الله عليه وآله أول ما تزوج، قبل البعثة ببضع سنين، من امرأة ليست كبقية النساء، فكانت الحكمة الإلهية دون شك هي من تدبرت أمر اقترانه بها، وهيأت ظروف حصول هذا الزواج المبارك، في تلك المرحلة الحساسة والمفصلية من حياة الرسول الكريم، وهو على موعد مع الاختيار الإلهي، ليكون آخر الأنبياء، وتمام عدة المرسلين، مبشراً وهادياً ونذيراً.
فمن هي هذه السيدة الطاهرة، صاحبة الحظ العظيم، التي اختصها اللَّه بأن تكون أول شريكة في حياة الرسول صلى الله عليه وآله، في عز ما بعده عز، وحياة مليئة بالجهاد والعطاء والبذل؟ فخديجة بنت خويلد صاحبة الجاه والمال والحسب والنسب، بذلت كل ما لديها من أجل الإسلام الذي انطلق من منزلها، فكانت أول من آمن به وصدق بالرسول، فتدثر الوحي ظلال ذلك المنزل الملكوتي، منزل خديجة، وبعده منزل ابنتها فاطمة، عصارة الزواج المقدس، وارثة هم النبوة، وحاضنة رسالة السماء في ذريتها إلى اليوم الموعود. إذاً فالحديث عن السيدة الطاهرة خديجة، هو حديث عن الشجرة الأصل لهذه المسيرة المقدسة لأهل البيت عليهم السلام. فهي من أنجبت لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله، دون كل نسائه، مولوداً كتبت له الحياة، فكانت فيه الذرية الطاهرة. وهو صلى الله عليه وآله لم يتزوج في حياتها إكراماً لها، وكان يحبها حباً شديداً، ويجلها إجلالاً عظيماً، لأنها أعطت الإسلام بدون حدود، أعطته المال والجهاد والصبر والمعاناة، حتى قضت شهيدة في شعب أبي طالب، الذي فارق الدنيا في نفس العام، الذي سمّاه الرسول صلى الله عليه وآله عام الحزن. فمن هي السيدة خديجة، مستودع السر الإلهي. من هي هذه السيدة المؤمنة، التي نالت الدرجة العظيمة، فكانت أم الأئمة، رفيقة درب الرسول والتي تشكّلَ في منزلها أول ثنائي مسلم، كان علي بن أبي طالب عليه السلام ثالثه؟ وكيف تعرف الرسول صلى الله عليه وآله إليها، وما هي ظروف الزواج وطبيعة العلاقة؟ وأمور كثيرة يحلو الكلام عنها في محضر السيدة خديجة الكبرى، أم المؤمنين والمؤمنات، سيتناولها بدرايته وأسلوبه العلمي الشيق ، ودقته في البحث والتحقيق، سماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، من خلال هذا الحديث الموجز مع مجلتنا، وفيما يلي نص الحوار:
س1: بداية سماحة السيد، هل لنا أن نطلع على ظروف تعرف النبي صلى الله عليه وآله إلى السيدة خديجة رضي الله عنها؟
ج: إن النبي صلى اللَّه عليه وآله لم يكن يتعرف على النساء، ولا يسامرهن، أو يحادثهن،كما يفعله كثير من الناس هذه الأيام. فإن ذلك في أكثره يحمل معه الكثير من المخالفات للشرع، أو هو على الأقل يخالف رغبة وتوجيهات الشارع، ونظرته لما ينبغي أن تكون عليه علاقة الرجل بالمرأة. وإذا كان المراد بتعرفه عليها، معرفته بحالها وبميزاتها، ما يجعله يرجح طلب يدها للزواج، فالجواب هو أن خديجة عليها السلام كانت معروفة لدى الناس في محيط مكة بطهرها وعفافها وعقلها واستقامتها. وكيف لا، وهي التي كان يطلق عليها سيدة قريش؟ ودعيت في الجاهلية ب"الطاهرة". وقد خطبها عظماء مكة وأهل المال والجاه والنفوذ فيها، مثل أبي جهل وأبي سفيان وغيرهما فرفضت، لأنها لم تجد فيهم من صفات النبل والطهر ما ينسجم مع فكرها، أو يرضي وجدانها وضميرها. وحين وجدت الشخص الكامل والفاضل، بادرت هي إلى السعي لإقناعه بقبولها زوجة له، وقد حصلت على ما أرادت في نهاية المطاف. لا لأجل ما يملك من مال، فإنها كانت تعرف أن لا مال له، ولا أخذت بنظر الإعتبار ما له من نفوذ، مع أن خديجة عليها السلام كانت متموّلة، وتعيش في عصر الجاهلية حيث كان طاغياً التفاخر بالتكاثر بالأولاد وبالأموال وبغير ذلك من أمور الدنيا، وعن حالهم قال تعالى (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ). كذلك فقد كان حب الدنيا وزخارفها، هو المسيطر على عقول الناس آنئذٍ. وإذا نظرنا إلى نساء عصرنا هذا بل إلى نساء جميع العصور فسنرى أن المرأة المتموّلة تهتم في أن تجد من يضارعها أو يزيد عليها في اكتناز الأموال، أو من يملك ميزات خاصة تلبي لها حاجة من نوع ما، أو يستجيب لرغبة خاصة بها، ولكن رغبة وحاجة خديجة عليها السلام كانت فقط هي الحصول على الكمالات الإنسانية، والهدايات الإلهية، وعلى العقل والرصانة، والصدق والأمانة، في مجتمع هيمنت عليه الأهواء والجهالات والرذائل والقبائح.
س 2: كيف تم إذًا زواج النبي صلى اللَّه عليه وآله بخديجة عليها السلام؟
ج: كما أسلفنا، فإن خديجة كانت متموّلة وكانت تعطي بعض الناس مالاً ليضارب به، وقد عرضت على النبي صلى اللَّه عليه وآله أن يضارب بقسم من أموالها، وبذلت له ضعف ما كانت تبذله لغيره، لما تعرفه من صدق حديثه، وعظيم أمانته، وكرم أخلاقه فقبل العرض وسافر إلى الشام وربح في تجارته أضعاف ما كان يربحه غيره. وكان يرافقه غلام لخديجة اسمه ميسرة، فلما عادوا، أخبر ميسرة سيدته بما رآه في رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله، من كرامات باهرة، وسجايا وأخلاق فاضلة وأمانة واستقامة. فاهتمت عليها السلام بالعمل للاقتران به، وأرسلت إليه من يحاول إقناعه بذلك، فنجحت المحاولة. بناء على ذلك، فقد ذهب أبو طالب في أهل بيته ونفر من قريش إلى وليها، وهو عمها عمرو بن أسد، وخطبها منه، لأن أباها كان قد قتل في حرب الفجار كما قيل وبدأ أبو طالب خطبته بقوله: الحمد لرب هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرية إسماعيل، وجعلنا الحكام على الناس... إلى أن أتى على ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله فقال فيه: إنه لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه، ولا عدل له في الخلق، وإن كان مقلاً في المال؛ إلا أن المال رفد جار، وظل زائل. وقال فيه أيضاً: إنه له ورب هذا البيت حظ عظيم، ودين شائع، ورأي كامل. فنلاحظ بين طيات الكلام، أن أبا طالب عليه السلام رفض أن يكون المال معياراً وضابطة للتفضيل بين الرجال، بل هناك ما هو أنبل وأسمى وأمثل. فمحمد صلى الله عليه وآله من سلالة الأنبياء، وملتزم بهديهم، ووارث سجاياهم، ومتخلق بأخلاقهم، ومتحل بفضائلهم. ومما يذكر هنا أنهم يقولون أن أبا طالب قد ضمن المهر لخديجة في ماله، ولكن خديجة عادت فضمنت المهر لأبي طالب في مالها. فقال البعض: يا عجباً أيمهر النساء الرجال؟ فغضب أبو طالب وقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا، طلبت الرجال بأغلى الأثمان، وأعظم المهر، وإن كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي. وهذا الكلام هام جداً أيضاً من أبي طالب، الذي يُروى أنه كان من أوصياء عيسى عليه السلام. ولا غرابة في ذلك، فإن اللَّه سبحانه وتعالى لا يخلي الأرض من حجة، إما ظاهر مشهور أو غائب مستور.
س 3: ولكن هل صحيح أن خديجة عليها السلام كانت أكبر من النبي صلى اللَّه عليه وآله بخمس عشرة سنة؟ وكيف نفسر إقدامه على الزواج منها وهي بهذه السن المتقدمة؟ ومتى تم هذا الزواج؟
ج: إن الناس إنما يتداولون فيما يرتبط بعمرها حين زواجها ما ذكره ابن هشام في سيرته، ولا يهتمون لما قاله غيره. فقد صحح البيهقي أن عمرها حين تزوجها صلى اللَّه عليه وآله كان خمساً وعشرين سنة فقط. وروي أيضاً أن عمرها ثمانية وعشرون، وهو ما رجحه كثيرون. وقيل: كان عمرها ثلاثين سنة، وقيل خمساً وثلاثين سنة، وقيل غير ذلك. أما ما يرتبط بتاريخ زواجها برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله، فإنه وإن كان الناس قد أشاعوا قول ابن هشام من أنه صلى اللَّه عليه وآله قد تزوجها قبل البعثة بخمس عشرة سنة، فإن ذلك غير سليم أيضاً، فابن جريج مثلاً يروي: أنها تزوجت بالنبي صلى اللَّه عليه وآله قبل البعثة بثلاث سنوات، وقال أبو هلال العسكري: تزوجها قبل البعثة بخمس سنوات، وقيل: قبلها بعشر سنوات.. فإذا جمعنا بين هذه الأقوال وبين الأقوال المتقدمة، لا سيما قولهم: إنها تزوجت وعمرها خمس وعشرون، أو ثمان وعشرون سنة، فإننا نخرج بالنتائج التالية:
1- إن قولهم أنها كانت أكبر من النبي صلى اللَّه عليه وآله يصبح موضع ريب وشك كبير، بل لعل العكس هو الصحيح..
2 - لا يبقى مورد للسؤال عن سبب زواجه صلى اللَّه عليه وآله بمن هي أكبر منه سنّا، لأنه صلى اللَّه عليه وآله كان هو الأكبر سناً.
3 إن ذلك يوجب الشك في أن تكون رقية وأم كلثوم اللتان كانتا زوجتين لعتبة ومعتب، ابني أبي لهب، في الجاهلية، وكذلك زينب التي تزوجها أبو العاص بن الربيع في الجاهلية، بنات لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله على الحقيقة، بل يقوى احتمال كونهن ربيبات عنده صلى اللَّه عليه وآله.
س4 : كيف ذلك، والمعروف أن رقية وأم كلثوم وزينب، هن بنات النبي صلى اللَّه عليه وآله؟!
إن ما نقوله ونتبناه، هو أنهن لسن بنات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله، بل قد تربين وعشن في بيته صلى اللَّه عليه وآله برهة من الزمان. وقد نشرنا كتابين حول هذا الموضوع أحدهما كتاب "بنات النبي أم ربائبه؟"، والآخر "القول الصائب في إثبات الربائب"، وما ذكرناه آنفاً هو أحد الشواهد على ذلك. ويشهد له أيضاً قول علي عليه السلام في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة وهو يتحدث عن البعثة: "ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة".
س5: وما هو رأي سماحتكم فيما يقال عن زواج خديجة عليها السلام قبل النبي صلى اللَّه عليه وآله برجلين، ولها من أحدهما بعض الأولاد؟!
إن ما ذكرناه آنفاً يفيد بأن ثمة ريباً كبيراً في هذه المزاعم، إن لم نقل أنه لا ريب ببطلانها. ويبدو أن كثيراً من هذه الأمور قد جاء من قبل بعض الضرائر، أو مما صنعته يد السياسة، التي كانت تريد أن تثأر من فاطمة عليها السلام، التي كان لها موقف معروف بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله، وإعطاء جميع الإمتيازات لبعض نساء النبي صلى اللَّه عليه وآله اللواتي كان لهن موقف من علي عليه السلام بعد وفاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله. والحقيقة هي أن النبي صلى اللَّه عليه وآله قد تزوج خديجة بكراً، كما أثبتناه في كتابينا المشار إليهما آنفًا، ولم تتزوج خديجة قبله صلى الله عليه وآله.
س 6: هل رزق النبي صلى اللَّه عليه وآله بأبناء من غير السيدة خديجة عليها السلام؟
ج: لقد رزق النبي صلى اللَّه عليه وآله بإبراهيم من مارية القبطية وهي جارية فاضلة صالحة، أهداها إليه المقوقس ملك مصر، ولكن إبراهيم مات وهو طفل صغير. كما أنه صلى اللَّه عليه وآله قد رزق من خديجة بعدد من الأولاد، ماتوا جميعاً في الصغر. والظاهر أن فيهم من اسمها رقية وزينب وأم كلثوم، وقد متن صغاراً أيضاً، وبقيت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام التي كبرت وتزوجت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وولدت له الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام، وأسقطت محسناً بسبب ما تعرضت له بعد وفاة النبي صلى اللَّه عليه وآله، وكذلك ولدت له زينب وأم كلثوم. من هنا نجد أن الحكمة الإلهية، رعت وحفظت وجود النبي صلى الله عليه وآله في ذرية علي بن أبي طالب وفاطمة ابنته وخديجة، هذه السيدة التي كانت في طليعة المجاهدين والمضحين في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، فلا غرو أن تورث طهرها وعفتها وجهادها وصبرها للأولياء الصالحين الذين سيتحدرون من شجرتها الطاهرة، شجرة النبوة والرسالة المحمدية.