فضيلة الشيخ محمد خاتون
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ عندما نقف أمام صفوة من البشر خلّدهم التاريخ.. قد لا نجد كثيراً من المفردات التي نضعها في سجل هؤلاء ومن خلالها نجري عملية التقويم لهم.. إذ أن العادة جرت بأن قيمة كل شخص هي بمفردات تجمع من هنا وهناك وكلما حصلنا على مفردات أكثر كلما كانت القيمة أكبر.
ولكن بنظرة صحيحة يمكننا ومن خلال مفردات قليلة أن نجري حسابات توصلنا إلى درجة مقبولة من المعرفة بهؤلاء الأشخاص، وذلك إذا كانت انطلاقتنا من مسلّمات واضحة في البداية.
.. ونحن أمام أعظم زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعيش هذه الحالة.. ولا نريد أن نحلل لماذا أغفل التاريخ ـ أو كتبة التاريخ ـ كثيراً من فضائلها.. فإن القليل مما ورد منه يضعنا أمام تلك الصورة الناصعة بهذه الشخصية الكبيرة.
ونحن ننطلق من خلال ما ورد عن سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وآله وسلم لنصل من خلاله إلى ما نريد.
فقد ورد أن إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصيبها الغيرة الشديدة عندما كانت تسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر خديجة بالخير ويترحم عليها.. فقالت له ذات مرة لماذا تذكر عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: والله ما أبدلني الله خيراً منها. لقد آمنت بي حين كفر بي الناس.. وواستني بمالها حين حرمني الناس وآتاني الله الولد منها وحرمني من غيرها.
فهناك مواصفات في تلك الشخصية هي المقياس في التفاضل بين الناس فإيمانها كان إيماناً عميقاً من خلاله احتضنت الرسالة وقامت بذلك الدور الريادي اللافت الذي قل نظيره.. وإنفاقها أموالها كان بلا حساب.. لقد كان إنفاق الإنسان الذي لا يخاف الفقر.. فالمال مال الله وليس هناك طريق أصلح لإنفاقه سوى في الدعوة إليه عزَّ وجلَّ وهكذا تحولت خديجة من أغنى أغنياء قريش إلى إنسان لا يملك شيئاً من حطام هذه الحياة الدنيا، ولأنها بهذه المواصفات الذاتية التي وفقها الله تعالى لنيلها.. جعلت لها تلك الكرامة أن اختير منها وحدها ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. لتبقى محط نعمة الله تعالى إلى يوم القيامة.
لقد كان ذلك التكريم الإلهي مختصاً بهذه المرأة من زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها وصلت إلى ذلك المستوى الإيماني الرفيع الذي من خلاله لم تر لكل ما في هذه الدنيا أي أثر، وإنما كان نظرها إلى الآخرة وثواب الله تعالى.. وإذا وقفنا أمام كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتحدث عن أن الإسلام قام بسيف علي ومال خديجة فإننا نتساءل يا ترى هل سيف علي وهو ذو الفقار لو حمله شخص غير علي عليه السلام أكان يفعل فعله كما حصل في يد أمير المؤمنين.. أو لو كان عليه السلام حمل سيفاً آخر غير ذلك السيف ألم يكن يفري به الأعداء؟
وإذا كان مال خديجة في يد غيرها فهل أن المال سوف ينفق نفسه بنفسه؟ وإذا كانت خديجة بلا مال فإنها لن تكون صاحبة تلك المكانة؟ إن القضية ليست قضية سيف في يد علي ولا مال في يد خديجة وإنما القضية هي نفس علي ونفس خديجة.
إن مسألتها ليست مسألة مال أنفقته. وما عناه صلى الله عليه وآله وسلم عندما مدحها هو تلك الروحية العالية التي تقف وراء الإنفاق.. إنها الإخلاص لله تعالى.. واحتساب كل شيء في سبيل مرضاته..
لقد كانت الزوجة الصالحة المؤمنة المجاهدة وفي بيتها بدأت النبوة والرسالة وتحملت أعباء ذلك الأمر الكبير الذي جعله الله تعالى منطلقاً لأعظم حالة تغيير تشهدها الأرض.. كل ذلك أرخى بثقله على خديجة، فكانت المجاهدة الصابرة بكل ما تملك من أجله تعالى ثم كانت الحضن الذي خرجت منه سيدة نساء العالمين عليها السلام والتي بدورها كانت حضن الإمامة.
لقد كانت خير مؤتمن على تربية أشخاص كان لهم ذلك المقام عند الله، لم يكن مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة مدحاً عابراً وحاشى لرسول الله أن يفعل ذلك وإنما هو إنباء بحقيقة المنزلة التي لها عند الله ولذلك كان لغياب هذه الشخصية من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكبر الأثر في نفسه الريفة.. حيث امتلأ قلبه أسىً وحزناً، فهو فقد ذلك الشخص الذي أعانه في أشد الحالات التي عصفت فيها الأحقاد بوجهه صلى الله عليه وآله وسلم.. وكان رحليها في نفس السنة التي رحل فيها مؤمن قريش عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفيله ولمدافع الأول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو طالب فكان غياب هذين الناصرين المجاهدين مدعاة لأن يسمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك العام عام الحزن.. وفي تلك التسمية ما فيها من الدلالات التي ترينا المكانة الكبيرة لهم في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تمتد عمقاً لتلامس مشاعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي هي صنيعة الله تعالى.. فكل ما شعر به ويخفق قلبه له فرحاً أو حزناً .. إنما هو بسبب المكانة الحقيقية لذلك الأمر عند الله تعالى.
صحيح أن الرسالة مستمرة ولا سيما من خلال وجود أمير المؤمنين عليه السلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن الصحيح أيضاً أن هناك مهمات كبيرة ألقيت على عاتق خديجة وقامت بها خير قيام وارتحلت بعدها راضية مرضية.. سوف يبقى أثرها الطيب باقياً في نفس رسول الله حيث ينظر فلا يجد خديجة.. فتبقى المهمات المقبلة من دونها، فلا عجب أن يبكيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقلب حزين، أوليس فراق هؤلاء المخلصين صعباً؟ وهم الذين كانت لهم في ك لموقعة صولة وجولة.. ولا سيما إذا كان نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – وهو الذي ينظر بعين الله تعالى – إلى أفراد قومه الذين اختبرهم في ما بعد وامتحنهم فلم يجد منهم إلا القليل القليل الذي ينتمي فعلاً إلى مدرسة النبوة.. فهناك يعز الناصر ويندر المعين.. وتعرف قيمة أولئك الذين قدموا العون للرسالة في ساعة العسرة.. ولا سيما أولئك الذين سبقوا بالإيمان والجهاد.. وهل هناك أسبق من هذه الزوجة الصالحة، التي كانت خير الزوجات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخير أم للمؤمنين.
سلام عليها يوم ولدت وسلام عليا يوم ارتحلت إلى الله تعالى وسلام عليها يوم يشع نورها في جمع المؤمنين يوم القيامة.