مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

السيدة خديجة عليها السلام جهاد وتضحيات

الشيخ إبراهيم السباعي


* بداية توطئة:
قد أعطى الإسلام الحنيف للأسرة غاية في الأهمية، لذا فقد جاءت أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وآله الأطهار عليهم السلام بتفصيلات تجتمع جميعها لتولد لنا بتطبيقها سعادة أبدية لأسرة هنية. من الواضح أن لكل أسرة مبادئ وقيماً؛ تقوم على أساس العدل وفهم كل واحد منهما الآخر، والرحمة والمودة والاحترام وطلب المزيد في التعمق في شخصية كل واحد للآخر. ولا تتكامل الأسرة إلا بهذه المبادئ والأمور التي تمثل روح الأسرة، ويعتبر الهدوء والتفاهم وحب كل واحد منهما الآخر؛ هو أساس بناء هذا المجتمع المصغّر الذي قامت أواصره على أساس الرضا وكتمان السر في هذه المملكة الصغيرة والإخلاص والوفاء المتقابل.

هذه ليست محض نظريات ومثاليات بل هي أمثلة حية لعدد من الناس وأصدق مثالٍ على ذلك نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله والسيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام؛ حيث كانت المرأة الصالحة والصديقة المخلصة النصوحة والداعمة لرسول الله صلى الله عليه وآله ولرسالته في حياتها، حتى أنها ضحت بكل ما عندها من أجل الدعوة الإسلامية. لذا حزن النبي صلى الله عليه وآله على وفاتها جداً وسمى ذلك العام "عام الحزن" أعلنها مناسبة عامة لأنها أعطت ما عندها للإسلام وليس من أجل مصلحة خاصة فسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حية.

* السيدة خديجة عليها السلام في سطور:
اسمها خديجة، اسم أبيها: خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. اسم أمها: فاطمة بنت زائدة بن الأصم وهو جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر. كنيتها وألقابها: الطاهرة، سيدة قريش، القريشية الأسدية، أم المؤمنين، أم القاسم، ولقبها رسول الله صلى الله عليه وآله: بسيدة نساء أهل زمانها. وقيل: كان لقبها في الجاهلية أم هند. خصائصها: أول امرأة آمنت وصدقت برسول الله صلى الله عليه وآله، وأول من حملت لقب أم المؤمنين، وأول من آزرت النبي صلى الله عليه وآله ي صدر الإسلام ودعوته، وأول من أعانت على تثبيت ركائز الدين ونشر الدعوة. أولادها: القاسم، وعبد الله "الطيب، والطاهر" وفاطمة عليها السلام. وقيل: زينب ورقية وأم كلثوم.

* ولادتها وظروف نشأتها:
عند الحديث عن ولادتها يعجز الباحث عن وضع اليد على معلومة يقينية تثبت ذلك، حيث لم تترك يد السياسة والتزوير حادثة تاريخية سليمة إلا وتلاعبت بأطرافها؛ حتى باتت ولادة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله نحتفل بمناسبتها مرتين، لعدم علمنا وقطعنا باليوم المعين تحديداً فكيف بمن ليس بمنزلته صلى الله عليه وآله. وعليه أم نستطع الوصول إلى وقت محدد يعين ولادة السيدة خديجة عليها السلام، إنما ولدت في بيت مجد وسؤدد ورئاسة في قريش، حيث أن أباها كان زعيماً من زعماء قريش. وأما أمها فلا تقل أهمية بالمنزلة والرفعة، لذا فلا يسع السيدة خديجة إلا أن تكتسب من ذي وذا عناصر الوراثة، حتى أصبحت السيدة الفاضلة التي يشار إليها بالبنان لفضلها وعلو شأنها من بين نساء قريش حيث لم يكن لها قرين. وقد نشأت في بيت من بيوتات قريش الشريفة ونمت على الأخلاق الحميدة، واتصفت بالحزم والعقل حتى عُرفت في قومها بالطاهرة، وذلك لشدة حرصها على التخلق بالخُلق الكريم والأدب العظيم. مات أبوها في حرب الفجار، فانتقلت ولايتها إلى عمها عمرو بن أسد، فأشرف على إدارة شؤونها وأمورها الأخرى. وأما بالنسبة إلى عمرها المبارك فإن العام الذي ولدت فيه غير معلوم كما ذكرت، لكن يمكننا تناول أطراف الحديث عن عمرها وتحديد عمرها عند زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله. فقد وردت طوائف من الروايات تتحدث عن عمرها وهي: 25 سنة (وصححه البيهقي)(1) 28 سنة (ورجحه كثيرون)(2) 30 سنة(3) 40 سنة(4) 45 سنة(5). وذكر غير ذلك من الأرقام كثير إلا أني لم أذكرها لعدم جدواها، ولم أجد لها أدنى فائدة، والمعول على هذه الروايات.

عزيزي القارئ طوائف الروايات بين يديك، لا ترجيح لأحدها على غيرها، إلا اللهم استحساناً أو إستنساباً، وعليه فلا نسلم بما يقال أنها بلغت الأربعين عند زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله أو الخامسة والأربعين، بل ولا نعطي أدنى اهتمام لما هو مشهور ومعروف إن كانت هذه أدلته، بل ويستحيل حملها على الأربعين أو الخامسة والأربعين، بالأخص إن رجّحنا ولادة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام بعد البعثة بخمس سنين هذا أولاً. وثانياً: من غير المعلوم أنها كانت تكبر النبي صلى الله عليه وآله بل كما هو الثابت أن النبي صلى الله عليه وآله كان يكبرها بخمس سنين على حدٍ أقل. وكان عمر النبي صلى الله عليه وآله كما جاءت به الأخبار: أنه صلى الله عليه وآله تزوج خديجة وهو ابن ثلاثين سنة، أي قبل البعثة بعشر سنوات. وهناك قول آخر ورد: أنه صلى الله عليه وآله تزوج خديجة، وهو ابن سبع وثلاثين سنة(6)، أي قبل البعثة بـ3 سنين.

* رب صدفة خير من ميعاد:
يروى أن السيدة خديجة كانت صاحبة مال وجاه، وكانت تتمتع بحدة الذكاء والسماحة والسخاء، وقد أحسنت إشرافها على أموالها فزادت بمرور الأيام، واتسعت تجارتها إلى الشام. وفي مكة كان قد شاع خبر الرجل الصادق الأمين صاحب الأخلاق والحسب والنسب، فبدأت الناس تتحدث عنه صلى الله عليه وآله وعن توفقه الدائم في التجارة؛ التي كانت آنذاك مهنة معظم شباب مكة المكرمة. فكانوا يتاجرون بأموالهم أو يضاربون بأموال الغير ولهم نسبة محددة من الأرباح. كانت السيدة خديجة ممن سمع عن صدقه صلى الله عليه وآله وأمانته، وهي بالتالي كانت وما تزال تفتش عن رجل أمين يُحسن إدارة أموالها وتجارتها أو تنمية أموالها بالمضاربة بها. رغبت عليها السلام بتوكيله لهذه المهمة، فأخبرته: أن الدافع من وراء اختياره وتفضيله على غيره من شباب مكة؛ ما بلغها من صدق حديثه وأمانته وكرم أخلاقه. لم تكتف بما سمعت عنه فأرسلت معه في تجارته إلى الشام غلامها ميسرة لتراقب حركاته وسكناته، وجميع تصرفاته عن كثب من خلال ما يراه ميسرة. ولا يخفى هنا رجاحة عقلها في إرسال غلامها معه ليلاحظ تصرفاته ومعاملاته، حيث أن معاشرة المسافر تكشف عن خلقه الأصيل، وتكشف عما يخفيه الإنسان بل وتظهر شخصيته على حقيقتها؛ فهو يراه عند نومه وقيامه وبيعه وشرائه ومشيه ومعاملته وجميع تصرفاته مع الناس. سافر النبي صلى الله عليه وآله في تجارته إلى الشام فكان موفقاً جداً. وفي أحد الأيام دخل ميسرة مسرعاً على سيدته ليزف البشرى بصدق ظنها، وقصّ عليها كل ما رآه من مميزات لشخصيته بدءً من صدقه وأمانته مروراً بأخلاقه مع الناس وما قالت الناس عنه، انتهاء بالغمامة التي كانت تظلله من الشمس ساعة الهاجرة.

* الأنوار تتحد وتتلاحم:
بلغت خديجة مبلغ النساء، وبدأت تعرف بفطنتها ورجاحة عقلها وفضلها في المجتمع. وقد تقدم لخطبتها عظماء قريش، لشرفها وحسبها ونسبها وعظيم أدبها، حيث كانت من خيرة نساء قريش شرفاً، وأكثرهن مالاً، وأحسنهن جمالاً. وقد بذلوا لها الأموال وممن خطبها عقبة بن أبي معيط، والصلت بن أبي يهاب، وأبو جهل، وأبو سفيان(7). بل وكل قومها كان حريصاً على الاقتران بها لو يقدر عليه(8). وتقدم النبي صلى الله عليه وآله فيمن تقدم لخطبتها يرافقه يرافقه عمه أبو طالب ورجال من أهل بيته ونفر من قريش إلى وليها؛ وهو عمها عمرو بن أسد حيث كان قد قتل أبوها في حرب الفجار(9). وكما يروى أن أبا طالب قال في خطبتها: الحمد لرب هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرية إسماعيل، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم أضاف: إن ابن أخي هذا ممن لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه.. وله في خديجة رغبة، وقد جئناك لخطبتها إليه، برضاها وأمرها، والمهر علي في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله(10). وروي أن النبي صلى الله عليه وآله نفسه قد أمهرها عشرين بكرة(11).

* السيدة خديجة الزوجة المخلصة والمجاهدة:
انصرفت السيدة خديجة لإدارة بيتها والقيام بأعباء المنزل؛ وهي سعيدة فرحة أنها في خدمة محمد صلى الله عليه وآله، مكللة بالحب والإخلاص. ابتداء من الإشراف على تربية الأولاد انتهاء إلى توفير كافة أمور الراحة للزوج المخلص، وجعل مستقره مكاناً آمناً هادئاً مناسباً للتفكر والتأمل؛ الذي كان يقوم به قبل البعثة. وعندما بُعث النبي صلى الله عليه وآله بالرسالة والدعوة، كانت أول من آمنت به وصدقته؛ فباتت أول مسلمة دخلت في الإسلام. لذا في يوم من أيام زيارة السيدة خديجة لرسول الله في فترات اعتكافه في غار حراء نزل الأمين جبريل على رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال النبي صلى الله عليه وآله: يا خديجة، إن جبريل يقرأ عليك السلام من الله رب العالمين، فقالت خديجة: الله السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام، وعلى جبريل السلام. منذ ذلك اليوم الذي بُعث به صلى الله عليه وآله والسيدة خديجة تقف إلى جواره تسانده وتؤازره وتعاونه وتخفف عنه ما يلاقيه من أذى قريش.

* مشاركتها في الدعوة:
أخذت عليها السلام تدعو إلى الله بقولها وعملها، وتدفع الناس إلى الدخول في الإسلام، وكانت تلقى قبولاً مهماً لدى النساء. وتحملت مع النبي صلى الله عليه وآله في أوقات الشدة والمحنة، وفي الحصار الذي فرض على المسلمين في شعب أبي طالب، كانت المرأة الصابرة المحتسبة قوية العزيمة والشكيمة، كنت ترى ذلك من خلال مواقفها كلها المليئة بالحنان والرفق، والعزم والقوة. لقد استحقت بجدارة لقبها من رسول الله صلى الله عليه وآله، أنها سيدة نساء أهل زمانها. وكذلك إخبارها النبي صلى الله عليه وآله في حياتها: "إن الله يبشرك ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب". لم تترك النبي صلى الله عليه وآله لحظة طيلة فترة حياتها، فكانت تقدر الأمور حق قدرها، وتبذل جهدها بما أوتيت من العطاء، وكانت تقف إلى جنب زوجها داعمة ومؤيدة بالمال والكلمة والنفس.

* سنوات الجهاد والتضحيات:
عايشت عليها السلام الفترات العصيبة التي عاناها النبي صلى الله عليه وآله والمسلمون في صدر الإسلام، حيث كانت فترات مملوءة بالإيثار والتضحيات والكفاح حتى آخر رمق، فقد رأت أول شهيدة في الإسلام الشهيدة سمية زوجة الشهيد الأول ياسر (أم عمار)، وشاهدت المسلمين المجاهدين والمسلمات المجاهدات، وهم يهاجرون الهجرة الأولى إلى الحبشة. تجدها في هذه المنعطفات وتلك المواقف متضرعة إلى الله عزَّ وجلَّ أن يفرج الكرب عن المسلمين، ويثبت أقدامهم، وأن يؤيد رسول الله صلى الله عليه وآله ويقويه على مواصلة دعوته؛ دعوة الحق والصمود في مواجهة ومقاومة الكفار والطغاة. كانت تستمد أعظم سلوى وأروع آيات التثبت الإيمانية من زوجها الحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن آيات القرآن البينات التي كانت تتابع في النزول؛ فيزداد المؤمنون إيماناً وهدى وتصديقاً. لقد دعمت الإسلام وأعطت كل ما لديها بتفانٍ وإيثار، وضحت بكل ما عندها حتى استطاع الإسلام أن ينهض بمال خديجة وبحماية علي عليه السلام، حيث لا ينكر ذلك إلا متعصب معاند أعمى قلبه الحقد والضغينة.

فقد كان لمواقف السيدة خديجة عليها السلام في صدر الإسلام إلى يوم وفاتها؛ كل الدعم والتأييد للنبي صلى الله عليه وآله والإسلام ولنشر الدعوة بإخلاص تام. لذا عندما توفيت أعلن النبي صلى الله عليه وآله الحداد العام، وسمى ذلك العام وفاءً منه صلى الله عليه وآله لها، وتعظيماً وتخليداً لذكراها: "بعام الحزن". أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يقول: إن السيدة خديجة لم تعد تمثل زوج النبي صلى الله عليه وآله بل أصبحت رمزاً إسلامياً عالمياً مهماً. أحست السيدة خديجة بمقدمات المرض تتجمع فلازمت الفراش، اجتمع النبي صلى الله عليه وآله وابنته السيدة فاطمة عليها السلام حولها، نظرت إلى زوجها وابنتها النظرة الأخيرة مليئة بالأسى على الفراق، لكن رسول الله صلى الله عليه وآله بشرها باللقاء معها في الجنة، لحظات جد مؤثرة هطلت خلالها دموع الرحمة من النبي صلى الله عليه وآله، وفاض قلبه بالحزن، وبكت السيدة فاطمة عليها السلام وبكاها المسلمون حيث فقدت مكة سيدة نساء أهل زمانها، ورجعت النفس مطمئنة إلى ربها راضية مرضية، وقد توفيت قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنوات. فسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حية.


1 - دلائل النبوة، ج2، ص71 والسيرة لابن كثير، ج1، ص265.
2 - شذرات الذهب، ج1، ص14 وسير أعلام النبلاء، ج2، ص111.
3 - السيرة النبوية، ج1، ص140 وتاريخ الخميس، ج1، ص264.
4 - المواهب اللدنية، ج1، ص38 وشذرات الذهب، ج1، ص14.
5 - مختصر تاريخ دمشق، ج2، ص275.
6 - مجمع الزوائد، ج9، ص219 وتاريخ اليعقوبي، ج2، ص20.
7 - بحار الأنوار، ج16،ص22.
8 - سيرة ابن هشام، ج1، ص201.
9 - كتاب الأوائل، ج1، ص160.
10 ـ فروع الكافي،ج5، ص374.
11 ـ سيرة ابن هشام، ج1، ص201.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع