مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناسبة: زواجٌ قام به الدين

زهرة بدر الدين

 



ولدت السيّدة خديجة بنت خويلد عليها السلام من أبوين قرشيين من أعرق الأسر في الجزيرة العربية. وقد اجتمع لها، بالإضافة إلى هذا النسب الرفيع، الذّكر الطّيب والخُلق الكريم والصفات الفاضلة.

* نسب السيدة خديجة عليها السلام

كانت خديجة عليها السلام قبل أن تتزوّج بالنبيّ صلى الله عليه وآله تُعرف بالطاهرة وبسيّدة نساء قريش، وهي مع ذلك من أثرياء قريش وأوسعهم جاهاً، مفطورة على التديّن على دين النبي إبراهيم عليه السلام بعاملي الوراثة والتربية، فأبوها خويلد هو الذي نازع (تُبّعاً الآخر) ملك اليمن حين أراد أن يحمل الحجر الأسود معه إلى اليمن، فتصدّى له ولم ترهبه قوّته وكثرة أنصاره حرصاً منه على هذا النّسك من مناسك دينه (1). وأسد بن عبد العزى وهو جدّ السيّدة خديجة، كان هو الآخر من المبرّزين في حلف الفضول الذي تداعت له قبائل من قريش، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم ممّن دخلها من سائر الناس، إلاّ قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى تُرد مظلمته، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحبّ أنّ لي به حمر النعم، ولو دعيتُ به في الإسلام لأجبت" (2). وابن عمّها ورقة بن نوفل كان يعكف على دراسة كتب النصارى واليهود، ويعمل بما يستحسنه منهما، لأنّه كان يسخر من عبادة الأصنام والتماثيل ويبحث عن دين يطمئن إليه (3). إذاً, كانت السيّدة خديجة من أسرة عريقة معروفة بالعلم والديانة، وكان ذووها على الحنيفيّة دين إبراهيم عليه السلام، وممّن ينتظرون ظهور دين الحقّ في بلاد الجزيرة العربية.

* نشاطها التجاري
استثمرت السيدة خديجة عليها السلام أموالها الطائلة بالتجارة ولم ترابِ بها في زمان كان الربا فيه رائجاً، واستخدمت رجالاً صالحين لهذا الغرض. ويروي المحدّثون أنّ السيّدة خديجة كانت ترسل في تجارتها إلى الشام جماعة بأجر معين، فبادرت إلى رسول صلى الله عليه وآله وأرسلت إليه ليذهب في تجارتها، وبذلت له ضعفي ما كانت تبذله لغيره، لأنّه كان حديث الناس رجالاً ونساءً في أمانته، وصدقه، واستقامته. ويذكر بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وآله لم يكن أجيراً لأحد، وما حصل مع خديجة كان مضاربة(4). فوافق على طلبها بعد أن استشار عمّه أبا طالب، وكان سفره الثاني إلى الشام في الخامسة والعشرين من عمره(5). وقد أرسلت خديجة عليها السلام معه غلامها ميسرة لخدمة القافلة ورعايتها، وكانت الرحلة ناجحة وموفّقة. وقد أسرع ميسرة قبل دخول القافلة مشارف مكة ليخبر خديجة بما جرى وما حدث لمحمد صلى الله عليه وآله في طريقه من كرامات مع بحيرا الراهب حينما رأى الغمامة على رأس الرسول تسير معه حيثما سار تظلّه في النهار، وما حصل مع الراهب نستور ورأى فيه من علامات النبوة إذ قال لميسرة: طاوعه في أوامره ونواهيه فإنّه نبيّ، والله (6).

* زواجها عليها السلام برسول الله صلى الله عليه وآله
ومن نبوغ وحدّة ذكاء السيدة خديجة، ونظرتها البعيدة أنّها أدركت عظمة شخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسموّ أخلاقه قبل تكليفه برسالة السماء، فاهتمت بالعمل على الاقتران به من دون الرجال والشخصيات المرموقة الذين تقدّموا لخطبتها، بل إنّها هي التي تقدّمت وعرضت الاقتران به، على رغم البون الشاسع بين حياتها وحياته البسيطة؛ إذ كان يعيش تحت كفالة عمِّه أبي طالب. وهنا اقترحت السيدة خديجة قضية الزواج، وفاتحت الرسول، وطلبت منه أن يطلب يدها من والدها خويلد أو عمِّها (على قولٍ). وطلبت من الرسول أن يرسل أعمامه إلى أبيها خويلد ليخطبوها، وكان عمرها الشريف 28 سنة على أصح الروايات، وعمر الرسول 25 سنة (7). ففوجئ أعمام الرسول بهذا النبأ الوحيد من نوعه واستولت الدهشة على عمات الرسول حينما سمعن منه الخبر. قام أعمام النبي وقصدوا دار خديجة، وخطبوها من أبيها خويلد أو عمِّها، فامتنع ثم وافق بعد ذلك. وكان ذلك قبل خمس عشرة سنة من بعثة النبي صلى الله عليه وآله على المشهور.

* صداق خديجة عليها السلام
وبما أنه لا بد من تقديم مبلغ من المال صداقاً يليق بمقام خديجة، إذا بالسيدة خديجة تباغتهم مرة أخرى، وتدفع إلى الرسول أربعة آلاف دينار هدية، وتطلب منه أن يجعل ذلك المبلغ صداقاً لها ويقدِّمه إلى أبيها خويلد. وكانت هذه البادرة نادرة عجيبة جداً، فلم يعهد أحد في العرب أن المرأة تقدِّم الصداق لزوجها، فلا عجب إذا هاج الحسد بأبي جهل وقال: المهر على النساء للرجال؟! فغضب أبو طالب وقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان، وأعظم المهر(8).  وكان أبو طالب ابتدأ بالكلام أثناء خطبتها قائلاً : "الحمد لربّ هذا البيت الذي جعلنا زرع إبراهيم وذرّية إسماعيل، وأنزلنا حرماً آمناً وجعلنا الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثمّ إنّ ابن أخي يعني محمداً صلى الله عليه وآله ممن لا يوزن برجل من قريش إلاّ رجح به، ولا يقاس به رجل إلاّ عظم عنه، ولا عدل له في الخلق وإن كان مقلاً في المال فإنّ المال رفد جار وظل زائل، وله في خديجة رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله، وله وربّ هذا البيت حظّ عظيم ودين شائع ورأي كامل" (9). وبعد انتهاء العقد قالت خديجة عليها السلام للنبي صلى الله عليه وآله: إلى بيتك، فبيتي بيتك وأنا جاريتك(10).

 وانتقل الرسول صلى الله عليه وآله إلى دار السيدة خديجة عليها السلام. وبقي في تلك الدار التي ظلّت معلماً شاخصاً، ولساناً ناطقاً، يحكي أحداث الدعوة والجهاد، وصبر رسول الله صلى الله عليه وآله ومعاناته.  لقد أعطت خديجة زوجها حبّاً وهي لا تشعر بأنّها تعطي، بل تأخذ منه حبّاً فيه كلّ السعادة، وأعطته ثروة وهي لا تشعر بأنّها تعطي، بل تأخذ منه هداية تفوق كنوز الأرض. وهو بدوره أعطاها حبّاً وتقديراً رفعاها إلى أعلى مرتبة وهو لا يشعر بأنّه قد أعطاها، بل قال: ما قام الإسلام إلاّ بسيف عليّ ومال خديجة، ولم يتزوّج بغيرها حتى توفّيت وهو لا يشعر بأنّه أعطاها.

* مكانة خديجة عليها السلام لدى النبيّ صلى الله عليه وآله
تحمّلت خديجة عليها السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله عذاب قريش ومقاطعتها وحصارها، وكانت تؤازره على أمره في تبليغ الدعوة، فخفّف الله عن رسوله صلى الله عليه وآله بمؤازرتها، فكانت تسرّه وتروّح عنه عندما كان يجد قسوة وغلظة أو ما يكره من ردّ وتكذيب من قريش فيحزن فإذا رجع إلى داره هوّنت عليه معاناته صلى الله عليه وآله وبثّت فيه النشاط كي لا يشعر بالتعب، وكان الرسول صلى الله عليه وآله يسكن إليها ويشاورها في المهم من اُموره(11). هذا الإخلاص الفريد والإيمان الصادق والحبّ المخلص من خديجة كان حريّاً أن يقابله رسول الله صلى الله عليه وآله بما يستحقّ من الحبّ والإخلاص والتكريم، وبلغ من حبّه لها وعظيم مكانتها في نفسه الطاهرة أنّ هذا الحب والوفاء لم يفارق رسول الله صلى الله عليه وآله حتى بعد موتها. فعن إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وآله أنّها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا ذكر خديجة لم يسأم من الثناء عليها والاستغفار لها، فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة فقلت: وهل كانت إلاّ عجوزاً قد أخلف الله لك خيراً منها؟ قالت: فغضب حتى اهتزّ مقدّم شعره وقال: والله ما أخلف لي خيراً منها، لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس وأنفقتني مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء. قالت: فقلت في نفسي: والله لا أذكرها بسوء أبداً" (12). وبلغت مكانتها إلى درجة أن الله كان يُقرئها السلام، ففي رواية: أنّ جبرئيل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: "يا محمد! هذه خديجة قد أتتك فأقرئها السلام من ربّها، وبشّرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب" (13).وكان صلى الله عليه وآله يحترم صديقاتها إكراماً وتقديراً لها، كما جاء عن أنس أنّ النبّي صلى الله عليه وآله كان إذا أتي بهدية قال: "اذهبوا إلى بيت فلانة فإنّها كانت صديقة لخديجة، إنّها كانت تحّبها". وروي عنه صلى الله عليه وآله أنّه كان إذا ذبح الشاة يقول: "أرسلوا إلى أصدقاء خديجة"، فتسأله إحدى زوجاته في ذلك فيقول: "إنّي لأُحب حبيبها" (14).

إنّ خديجة لَتستحق كلّ هذا التقدير والاحترام من رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن بلغت المقام السامي والدرجة العالية عند الله حتى حباها ربّ العالمين بالدرجة الرفيعة في الجنة، وقد أوضح رسول الله مكانتها في الجنة بقوله صلى الله عليه وآله: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون" (15).


(1) سيرة الأئمة الاثني عشر، هاشم معروف الحسني، ج 1، ص 42.
(2) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 15، ص 203.
(3) سيرة الأئمة الاثني عشر، م. س، ج1، ص 42.
(4) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج16، ص 9.
(5) م. ن، ص9.
(6) م. ن، ص 14.
(7) الوافي بالوفيات، الصفدي، ج 1، ص 64.
(8) سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج 2، ص 114.
(9) الكافي، الكليني، ج5، ص374.
(10) بحار الأنوار، م. س، ج 16، ص 4.
(11) م. ن، ج 6، ص 10 11.
(12) أم المؤمنين خديجة الطاهرة، حسين الشاكري، ص 35.
(13) م. ن.
(14) فتح الباري، ابن حجر، ج 10، ص 365.
(15) ذخائر العقبى، الطبري، ص 42.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع