عيد الفطر هو اليوم الذي يرفع فيه المسلمون بعد أدائهم اختباراً هاماً وبنّاءً ومهذّباً في شهر رمضان المبارك، يرفعون إلى الباري تعالى أعمالهم في هذا الشهر الشريف، وقد أشير إلى هذا المعنى في أدعية ليلة عيد الفطر ونهاره "اللهمّ تقبّل منّا شهر رمضان"، فيعرضون هذا الشهر على الباري تعالى حتّى يتقبّله منهم.
وهناك أيضاً نكتة أخرى في عيد الفطر وهي عقد العزم في هذا اليوم على الاستعداد في طول السنة والتهيّؤ لاستقبال شهر رمضان القادم. فإذا أراد شخص أيّاً كان أن يدخل في ضيافة شهر رمضان وأن يدخل في حريم ليلة القدر فينبغي له أن يُعدَّ نفسه مسبقاً، وهذا الاستعداد استعداد في طول السنة، ولا بدّ أن يعقد العزم من الآن، فقرّروا أن يكون سلوككم في الحياة في السنة المقبلة سلوكاً يؤهّلكم للدخول إلى شهر رمضان والتنعّم بهناء هذه الضيافة الربّانية، وهذه أكبر نعمة يمكن للفرد أن يحصل عليها، وهي وسيلة للنجاح في جميع الأمور المتعلّقة بالدنيا والآخرة والمتعلّقة بالفرد والأقارب والمجتمع الإسلامي.
إنّ مثل أفراد البشر في الدنيا كمثل أفراد انتدبوا كجمع طلاّبي أو عسكري أو إداري إلى قضاء دورة تعليمية في مخيّم ليحصلوا على بعض الأمور وليُرتقى بمستواهم فيُحدّد لهم برنامج في هذا المخيّم ويوفّرون لهم مستلزمات الحياة فيه، وبعد انتهاء هذه الدورة يكونون قد تعلّموا ما كان ينبغي لهم تعلّمه ونالوا ما ينبغي نيله، فيغادرون المخيّم ليمارسوا دورهم في العمل والحياة على مستوى أرقى. فالحياة هي ذلك المخيّم الكبير، وفي كلّ يوم يدخل هذا المخيّم آلاف الناس ويخرج منه العدد نفسه ليقتربوا أكثر من الغاية والهدف الأساس للخليقة وإلى منزلهم الحقيقي ويغادرون هذه البسيطة، وقد حدّدت لنا في هذا المخيم برامج يمكننا من خلالها الرقي والتكامل وإعداد النفس للدخول في المنزلة والغاية النهائية والحقيقية من خلق الإنسان، ألا وهي لقاء اللَّه تعالى. وهذه البرامج تتّخذ أشكالاً متعدّدة، فبعضها يعقد ارتباطاً بين الإنسان وخالقه من الناحية المعنوية والروحية كالصلاة والذكر والتوسّل والتضرّع إلى اللَّه والكثير من العبادات، وبعضها يقوم بتقويم أخلاق الفرد وملكاته ويرفع العيوب عن روحه كالأوامر الأخلاقية، فإنّها تستأصل منه الكبر والحسد والدناءة واللّؤم والحقارة والكذب، وتجعل منه فرداً كريماً خلاّقاً سمحاً سابحاً في الفضاء الإنساني المتسامي، وبعضها يقوم بتنظيم علاقاتنا مع سائر أفراد البشر في هذا المخيّم الكبير، ويعلّمنا الروابط الفرديّة والاجتماعية وحتّى الارتباط بالأشياء والحيوانات أيضاً، وبعضها يجعل ساحة الحياة صالحة للعيش كبرامج الحكومة وإقامة الدولة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعاداة الظالمين والإحسان إلى الصالحين والمؤمنين والإعانة على إصلاح الأمور العامة في العالم والمجتمع والعون على إزالة الفقر والبرامج الأخرى المرتبطة بمستوى العالم والحياة والمجتمعات.
لقد وضعت هذه المجموعة من البرامج في هذا المخيّم الكبير لنا جميعاً في هذه المرحلة من الحياة، ومضافاً إلى ذلك فقد وضعت في هذا المخيّم التعليمي والتربوي العظيم الذي نسمّيه بعالم الدنيا وضعت سُبل رفاه البشر وتحقيق لذّاتهم سواء اللّذات الجسدية أو الجنسية أو اللّذات التي تداعب العين والأذن وحاسّة الشمّ والروح والعقل وتبعث فيها النشوة. وإذا استُفيد من هذه اللّذات بشكل صحيح فستغدو الحياة في هذا المخيّم جميلةً أيضاً، أي أنّنا سننمو ونرقى ونتقرّب من الكمال ونُعدّ أنفسنا إلى الغاية من الخلق، وكذلك نتنعّم في هذه الدنيا باللّذات التي أباحها اللَّه لنا في هذه الدنيا، إذ قال: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق﴾، فإنّكم في شهر رمضان وفي فصول عبادية كبيرة تُعدّون أنفسكم لإنجاز هذه المجموعة من البرامج، ومن يؤدّ هذه المجموعة بشكل صحيح، ويمتثل ما هو اللاّزم منها ويصلح حياته وسلوكياته تَرَه عندما يخرج من المخيّم غير خائف؛ وذلك لأنّه مسلّح. على طول شهر رمضان يستحبّ بعد كلّ صلاة أن يقرأ هذا الدعاء ويطلب فيه من اللَّه تعالى: "اللهمّ اصلح كلّ فاسد من أمور المسلمين، اللهمّ سدّ فقرنا بغناك، اللهمّ غيّر سوء حالنا بحسن حالك"، هذا ما نطلبه من اللَّه وهو بأيدينا، فيجب أن ندقّق ونعدّ أنفسنا طيلة الأحد عشر شهراً للدخول في شهر رمضان، وعندما ندخل في شهر رمضان، فلنغتنم هذه الضيافة الإلهية أكثر من خلال الإعداد اللاّزم؛ حتّى نرقى في السنة المقبلة درجة ونذهب إلى صفٍّ أعلى ومستوى أعلى من السنة الماضية، وستشاهدون ما يرضيكم ويسعدكم سواء في الروح والنفس أو في مجال الحياة الاجتماعية. هذا هو أساس البرنامج الإسلامي التربوي، كما أنّ أساس جميع برامج الحياة في الإسلام هو هذه البرامج التربوية. فعلى كلّ فرد أن يكون واعظ نفسه ورقيباً عليها، وأن يحول دون ارتكابه للخطأ، وأن يأمر نفسه بالمعروف وينهاها عن المنكر، فإنّ أمر النفس بالمعروف ونهيها عن المنكر ووعظها مقدّم على أمر الآخرين ونهيهم وموعظتهم، وهذه هي التقوى الإلهية المطلوبة منّا.
فليوصِ بعضنا البعض بالتقوى، وأوصيكم إخوتي وأخواتي بعدم نسيان التقوى الإلهية، فإنّ أعظم ثمرة في رمضان هي التقوى، فحافظوا على ما حصلتم عليه وأضيفوا عليه في السنة المقبلة والسنوات الآتية، وإن شاء اللَّه إلى نهاية العمر.