السيد علي محمد جواد فضل اللَّه
هو أبو عبد اللَّه محمد بن محمد بن النعمان الحارثي العكبري البغدادي الشهير بالمفيد(1)، وهو حفيد التابعي الشهيد سعيد بن جبير المقتول بسيف الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي. هذا، وقد وقع الخلاف بين المترجمين لسيرته حول سنة ولادته، فذهب البعض إلى أنها كانت في عام 333هـ(2)، وذهب آخرون إلى أنها كانت في سنة 336هـ(3)، وآخرون قالوا إنها في سنة 338هـ(4)، وأما وفاته فقد أجمع المؤرخون على أنها كانت في سنة 413هـ(5).
وأما لقبه فالمعروف عند المترجمين له أن هذا اللقب هو من أستاذه المفسر والمتكلم المعتزلي علي بن عيسى الرماني (296هـ- 384هـ)(6)، وهناك من ينسب اللقب إلى القاضي عبد الجبار المعتزلي حيث أقعد المفيد في صدر المجلس قائلاً: "إنه المفيد حقاً"(7)، ويذهب ابن شهر آشوب في كتابيه "معالم العلماء" و"مناقب آل أبي طالب" إلى أن لقب "المفيد" مُنح للشيخ من قِبَل الإمام المهدي عجل الله فرجه(8)، وقد ذكر الطبرسي في كتابه "الاحتجاج" نص الكتاب الوارد من الناحية المقدسة حرسها اللَّه ورعاها حيث خاطبه عليه السلام بقوله: "للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد..."(9). نشأته: لقد نشأ الشيخ المفيد في مرحلة الحكم البويهي للعراق ولبغداد بالخصوص. والحياة الفكرية في هذا العصر انتعشت وازدهرت ازدهاراً كبيراً وامتازت بالخصب العلمي والأدبي. "فقد كانت بغداد في القرنين الرابع والخامس للهجرة موئلاً للعلماء ومركزاً للحركة الفكرية والازدهار العلمي والثقافي، بل حاضرة الثروة والرفاهية والمدنية، فكان الطلاب يتوافدون إلى مراكزها الثقافية ونواديها العلمية من جميع نواحي الدولة الإسلامية"(10). وهذا ما حدا بوالد الشيخ المفيد إلى أن يترك بلدته الصغيرة القريبة من بغداد "عكبرا" ويقصد مع ولده بغداد ليبدأ هناك المفيد رحلته العلمية وتلقي مختلف المعارف وفنون العلم على يد كبار العلماء هناك، وكان من جملتهم المتكلم والفقيه والأصولي والمحدث واللغوي والأديب وكان هؤلاء لا يقتصرون على طائفة واحدة فمنهم الإمامي والمعتزلي البصري والبغدادي، وغير ذلك من المشارب المعرفية التي نهل منها والتي أعانته على بناء شخصيته العلمية الموسوعية والمتنوعة، فأعطاه ذلك قدرة على محاججة الخصوم والموازنة والمحاكمة بين الآراء والأفكار وفق ميزان النص والعقل وبالتالي تصويب الأفكار الخاطئة باتجاه المسار الصحيح بغية التخفيف من حدة الانقسام بين مذاهب وفرق المسلمين، وهذه الصفة التي اتسم بها الشيخ المفيد في خضم المنازعات والمشاحنات والمخاصمات التي كانت سائدة في زمنه ساعدت على الكشف عن الكثير من الآراء والمفاهيم الباطلة وهذا مما ساعد على تضييق مساحة الخلاف والتباعد بين الفرق والتيارات والمذاهب(11).
إلى هذا، فلا بد هنا من الإشارة إلى بعد آخر في شخصية المفيد غير بعدها العلمي المعروف، ألا وهو البعد الروحي والعرفاني والذي لا شك أنه قد أسهم في صقل روح الشيخ وأعطاها الشفافية والصفاء المطلوبين في نيل المعارف وجلاء الحقيقة. ومن هنا فقد نقل "الذهبي" في "العِبَر" عن ابن أبي طي قوله: "كان كثير الصدقات عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس"(12). ويقول عنه "العسقلاني" في "لسان الميزان": "وكان كثير التقشف والتخشع والإكباب على العلم"(13). المكانة العلمية للمفيد: يقول "الذهبي" عنه: "عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة"، وينقل عن ابن أبي طي قوله: "وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة العظيمة في الدولة البويهية"(14). ويقول عنه العلامة الحلي: "من أجلّ مشايخ الشيعة ورئيسهم وأستاذهم وكل من تأخر عنه استفاد منه، وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية، أوثق أهل زمانه وأعلمهم، انتهت رياسة الإمامية إليه في وقته، وكان حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب له قريب من مائتي مصنف كبار وصغار"(15) ومثله قول الشيخ الطوسي في الفهرست(16). ولا شك أن ما تقدم من كلام هؤلاء الأعلام هو لسان حال كل من ترجم الشيخ المفيد قدس سره. ونحن هنا سنقف عند بعض المكونات المعرفية والعلمية لهذه الشخصية. وأول ما يستوقفنا في التراث العلمي للشيخ المفيد قدس سره هو منهجيته(17) التي اعتمد عليها وسار على هديها في كل تراثه الفكري، حيث نجده قد رسم لنفسه طريقاً وسطاً بين العقل والنقل فنراه في منزلة وسطى بين افراط المعتزلة في الاعتماد على العقل وبين تفريط المحدثين كالصدوق قدس سره مثلاً في الاعتماد على الحديث. هنا كان الشيخ المفيد قدس سره واضحاً فالعقل له حيِّزه ومساحته التي لا يتعداها، فالعقل مثلاً في موضوع معرفة صفات الباري تعالى لا يمكنه أن يلج هذا الباب منفرداً عن الوحي بل لا بد له من أن يتكئ على النقل لمواقعة الحقيقة في ذلك بينما نجده في مقام إثبات الصانع والاستدلال على وجوده تعالى أو اثبات التوحيد والنبوة العامة يعطي المجال فيها للعقل حيث لا سبيل للسمع والوحي.
المفيد وشخصيته الفقهية(18): لقد ترك الشيخ المفيد تراثاً فقهياً ثرياً استطاع من خلاله أن يرسم المعالم الواضحة لفقه أهل البيت عليهم السلام، وذلك عبر المنهج الإستدلالي الذي سار عليه فأخرج الفقه من دائرة الوقوف على النصوص والافتاء طبقاً لمتن الرواية كما كان عليه الحال مع الشيخ الصدوق ووالده ومجمل المدرسة القمية، واجتنب بالتالي الوقوع في القياس والاستحسان والرأي والأدلة غير المعتبرة التي وقع فيها ابن الجنيد(19). وهذا ما نلاحظه في مختلف أعماله الفقهية ككتاب "المقنعة" الذي يُعد تقريباً دورة كاملة في الفقه ولا يوجد قبله كتاب فقهي عند الشيعة يحمل خصوصياته وكذلك كتاب "الاعلام فيما اتفقت عليه الإمامية من الأحكام" الذي جعله ذيلاً لكتابه العقائدي "أوائل المقالات" وبالامعان في هذين الكتابين يقف القارئ على آراء الإمامية في الفقه والعقائد. يقول الإمام الخامنئي دام ظله حول فقاهة المفيد وأثرها الكبير على الفقه الإمامي بعده: "إن الشيخ هو الشخص الذي استطاع أن يوجد الاطار العلمي المقبول والمعتبر لدى الشيعة بحيث جمع المواد المأثورة والأصول المتلقاة في نظام علمي ظل لابثاً في حوزة الفقاهة الشيعية. وما أنجزه الشيخ هو نفسه مسار التقنين الفقهي الذي اتبع من بعده طوال قرون حتى اليوم، ليصل بالفقه إلى ما هو عليه الآن من نضج وتكامل". المفيد وشخصيته الأصولية(20): علم أصول الفقه هو نظام الاستنباط الفقهي وهو بمثابة وضع ضوابط دستورية للفقه. وقد وضع الشيخ المفيد قدس سره أول كتاب أصولي في تاريخ الشيعة الإمامية أسماه "التذكرة بأصول الفقه" وهو كتاب جامع مشتمل على جميع أبواب هذا العلم، ومن مميزات هذا الكتاب مضافاً إلى كونه الأول في هذا الباب عند الشيعة أن نظر الشيخ في بعض مباحثه كالعام والخاص قريب جداً عما هو عليه نظر المحققين الأصوليين في عصور متأخرة كثيراً عنه، وكذلك من مميزاته أنه قدَّم من المباحث ما يغلّب عليها الطابع العملي مما في عملية استنباط الأحكام الشرعية عما هو نظري لا حاجة إليه في عملية الاستنباط.
المفيد وشخصيته الكلامية(21): لقد كان للمفيد قدس سره الفضل الكبير في تشييد المدرسة الكلامية الإمامية وتهذيبها وتوضيح معالمها، هذه المدرسة التي كان لها الفضل في تجديد الفكر الإسلامي الشيعي وتحوله من منهج تقليدي انتقادي شبيه بمنهج النقليين من أهل الحديث يمثله ابن بابويه القمي، إلى منهج آخر جديد سمته المحاكمة والنقد على ضوء العقل والفكر. ويمكن تلمس هذا التحول في نواح عديدة مثل مشكلة الصفات الإلهية ومشكلة القضاء والقدر وكذلك المنهج العام، حيث كان السائد منهج وطريقة أهل الحديث في تفسير كثير من القضايا كالصراط والميزان والكتاب والحوض تفسيراً حرفياً دون تمحيص أو انتقاد كما هو الحال عند ابن بابويه الصدوق، بينما يختلف الحال عند المفيد وأسلافه إذ أن طريقتهم في معالجة الموضوعات والقضايا تنحو منحى التأويل المجازي والموازنة العقلية. وهكذا، من الواضح أن أعمال المفيد كانت تركز على إثبات الاستقلالية والأصالة للنظام الكلامي الشيعي. ومن هنا، فقد سعى لأن يضع الشواخص الكافية التي تميز عقائد الإمامية عما سواهم من باقي الفرق الإسلامية وخاصة المعتزلة، لأجل ما وقع من اشتباه لدى الكثيرين من أن أصول الكلام الشيعي هي نفسها أصول الكلام المعتزلي، ومن هنا كان دور المفيد إزاحة هذه الشبهات التي تقول: بأن الاعتزال أصل في نشأة الكثير من عقائد الشيعة، وهكذا، فقد سعى المفيد قدس سره إلى إرساء أصل عقيدي ثابت للإمامية، يكون بمثابة الإطار المرجعي لمن يريد أن يحرز الإيمان الدقيق والواضح بالمباني الفكرية للمذهب. وباختصار كان الشيخ المفيد قدس سره الشخص الذي أوكلت إليه مهمة تثبيت معالم الهوية المستقلة لمذهب أهل البيت عليهم السلام.
(1) آغا بزرك الطهراني، حياة الشيخ الطوسي ضمن كتاب التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي، ج1.
(2) المفيد، أمالي الشيخ المفيد، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، ج12، ص24.
(3) النجاشي، رجال النجاشي، ص402.
(4) الطوسي، الفهرست، ص190.
(5) محمد سلامة الحاج، الشيخ المفيد والتجديد الكلامي، ص28.
(6) مارتن مكدرموت، النظريات الكلامية عند الشيخ المفيد، ص35.
(7) المصدر السابق، ص36.
(8) ابن شهر آشوب، معالم العلماء، ص113.
(9) الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص497.
(10) علي محمد جواد فضل اللَّه، النظريات الكلامية عند الطوسي، دراسة تحليلية مقارنة، ص20 - 19.
(11) الشيخ المفيد والتجديد الكلامي، مصدر سابق، ص40 - 39.
(12) الحافظ (الذهبي) العِبَر في خبر من غَبَر، ج2، ص225.
(13) الحافظ شهاب الدين العسقلاني (ابن حجر)، ج15، ص368.
(14) العِبَر، مصدر سابق، ص225.
(15) العلامة الحلي، خلاصة الأقوال، ص147.
(16) الفهرست، مصدر سابق، رقم الترجمة 696، ص158 - 157.
(17) انظر: دراسة عن دور الشيخ المفيد، السيد علي الخامنئي، ص62 - 58.
(18) انظر: دراسة عن دور الشيخ المفيد، مصدر سابق، ص54 - 46.
(19) يرى بعض الفقهاء والباحثين أن الجنيد لم يكن يقول بالقياس وحملوا ما نسب إليه من العمل بالقياس.
(20) انظر: دراسة عن دور الشيخ المفيد، مصدر سابق، ص57 - 54.
(21) النظريات الكلامية عند الطوسي، مصدر سابق، ص290 289 و293.