مقابلة مع سماحة الشيخ حسين كوراني حفظه المولى
حوار موسى حسين صفوان
أن يختار لنا الإمام الحجة صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه دعاء الافتتاح ليقرأ في كل ليلة من ليالي شهر رمضان، فهذا يعني أنه من أفضل الأدعية إن لم يكن أفضلها على الإطلاق، فشهر رمضان المبارك أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، وساعاته أفضل الساعات، ولا شك في أن ما خصص لأيامه ولياليه من أدعية من أفضل أدعية الأيام والليالي.ويتميز دعاء الافتتاح بأنه شامل لجميع أغراض الدعاء، بحيث يمكن اعتباره دورة كاملة في مناجاة المولى سبحانه وتعالى، فضلاً عن أهميته في بناء الشخصية المؤمنة...وقد تعودنا في مجلة بقية اللَّه أن ننهل من معين سماحة الشيخ حسين كوراني الصافي، فقصدناه لنعيش معه لحظات مع مضامين دعاء الافتتاح، عسى أن نوفق لبعض بركاته ونحن على أبواب شهر رمضان المبارك.
* س: سماحة الشيخ: نحن على أعتاب شهر رمضان المبارك، شهر القرآن والدعاء، فهل لنا أن نتعرف على موقع الدعاء في الإسلام؟
ج: يكفي لمعرفة موقع الدعاء في الإسلام، التأمل في الآية الكريمة: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ (الفرقان: 77) فهي صريحة الدلالة على أن الدعاء ينبغي أن يكون هو الحالة العامة والصفة المقيمة والثابتة للإنسان المؤمن. ونجد في سيرة المصطفى الحبيب صلى الله عليه وآله وآل بيته الأطهار عليهم السلام تفسير هذه الآية المباركة، باعتبار أن حياتهم صلوات اللَّه عليهم كانت مسجداً عامراً بذكر اللَّه والدعاء الدائم. كذلك كانت سيرة أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الأبرار وأصحاب أهل البيت عليهم السلام وسيرة العلماء وصولاً إلى عصرنا الحاضر، حيث نجد في نصوص الإمام الخميني رضوان اللَّه عليه ما يؤكد هذه الحقيقة القرآنية، ففي بعض وصاياه لولده المرحوم السيد أحمد: "اعتبر أن الانفصال عن الدعاء يعني الانفصال عن الإسلام"، وهذا الموقع للدعاء هو الذي ينبغي أن يكون في الحالة الفردية والحالة الجماعية على حدٍّ سواء، بمعنى أن الفرد المؤمن ينبغي أن يكون كثير الدعاء، وأن المسيرة المؤمنة ينبغي أن تكون كثيرة الدعاء.
* س: لندخل إلى التفاصيل، ما هي أهم الأدعية التي يمكن للمؤمن أن يدعو بها عموماً، وفي شهر رمضان خصوصاً؟
ج: الأدعية التي ينبغي أن يُدعى بها عموماً وفي شهر رمضان خصوصاً، هي هذه الأدعية التي ورد التأكيد عليها واحتلت موقعاً مميزاً في تاريخ المسيرة المؤمنة، ففي سائر أيام السنة، هناك دعاء كميل، وهو من الأدعية التي لا يمكن أن ينفصل بناء الشخصية المؤمنة عنها، كذلك دعاء الصباح الذي يُقرأ في كل يوم، وهو من الأدعية التي تحفر بعيداً في أعماق الشخصية المؤمنة، وتسهم في صياغة الوجدان والأحاسيس والمشاعر، وبالتالي، صياغة القلب في خط العقل. ومن الأدعية الأساسية نجد دعاء السحر، الذي يمكن أن يقرأ في أي وقت من أوقات السحر، وهذه الأدعية يتحدث عنها الإمام الخميني قدس سره حديثاً خاصاً... أيضاً هناك دعاء التوسل الذي لا يمكن أن ينفصل بناء الشخصية المؤمنة عن الالتزام به... وأدعية التوسل كثيرة جداً، ورغم التشكيك في أسناد بعضها، إلا أنه لا مانع إطلاقاً من قراءة كل ما هو معروف من أدعية التوسل.
هذا بشكل عام، فإذا وصلنا إلى الدورة الإلهية الأولى في بناء الشخصية المؤمنة، التي هي دورة رجب وشعبان ورمضان، نجد التركيز على كثير من الأدعية، مثلاً في شهر رجب، بعد كل صلاة هناك الدعاء المعروف: (يا من أرجوه لكل خير) وفي شهر شعبان الأدعية كثيرة لكن التركيز على الصلوات عند الزوال (اللهم صلّ على محمد وآل محمد شجرة النبوة). ثم يأتي شهر رمضان المبارك، فنجد أن الدعاء الأبرز بين أدعيته هو دعاء الافتتاح، وهناك دعاء الجوشن ودعاء السحر الذي مر الحديث عنه، ولكل يوم دعاء خاص، أيضاً هناك ترنيمة (يا علي يا عظيم) بعد كل صلاة، لكن الأبرز بين كل هذه الأدعية هو دعاء الافتتاح.
*س: هل لنا أن نسأل عن خصوصية هذا الدعاء الشريف، أين يلتقي وبماذا يتميز عن غيره من الأدعية؟ وما هي الرسالة التي يؤديها؟
ج: الفرق بين دعاء الافتتاح وغيره من الأدعية يكمن في أن دعاء الافتتاح يعتبر دورة متكاملة، تجمع إلى خصائص الاعتقاد وأصول الدين، المسار العملي الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن في زمان الغيبة. فالمؤمن ينبغي أن يكون مستحضراً للتوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، وينبغي أن يكون في قلب العمل السياسي والجهادي الملتزم بالضوابط الشرعية، وبحدود اللَّه سبحانه وتعالى، حتى لا يكون الانتظار عبثياً. فإذا أردت أن أقف بشيء من التفصيل عند هذه الصفة نجد أن الدعاء يبدأ بتثبيت توحيد اللَّه سبحانه (اللهم إني أفتتح الثناء بحمدك وأنت مسدد للصواب بمنك)، يعني أريد أن أدعوك يا إلهي ولا حول ولا قوة لي إلا بك، فلا يمكنني أن أقول الصواب إلا بتسديدك... ثم نجد بعد ذلك الحديث عن تثبيت التوازن بين الخوف والرجاء (وأيقنت أنك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة، وأعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة). وهنا سؤال: هذا العبد الموحد المقيم بين الخوف والرجاء، ما الذي يجعله قادراً على الدعاء (اللهم أذنت لي بدعائك ومسألتك)؟ فهو ليس مشغولاً عن الطلب، لأن اللَّه أذن له بذلك، فهو لا يقبل على الطلب اعتماداً على نفسه، إنما اعتماداً على اللَّه الذي أذن له. والدعاء عبارة عن مدحة وطلب فيبدأ بالمدحة (فاسمع يا سميع مدحتي...) ثم يذكر الطلب إجمالاً (وأقل يا غفور عثرتي...).
وهنا، لم ينصرف الداعي إلى بيان عثرته، بل استحضر من المعاني ما يشغله عن بيان عثرته، فقد تذكر النعم السابقة (فكم يا إلهي من كربة قد فرجتها، وهموم قد كشفتها وعثرة قد أقلتها...) يعني ليست هذه الأمور منك بنكر، وإنما اعتدت عليها فعادتك الإحسان ما رأيت إلا جميلاً (يا من ربيتني صغيراً وحفظتني كبيراً)(1)، وهذا معناه: إلى أين أذهب، وأنا لم أحصل على الخير إلا منك؟
ثم يرجع إلى التفصيل في التوحيد بعد الإجمال (الحمد للَّه الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً) إلى قوله (إنه هو العزيز الوهاب). وهنا يرجع الداعي إلى بيان الحاجة بعد أن أفاض في استحضار النعم الإلهية، ثم أكد على توحيد اللَّه وأصبح الجو مهيأ لبيان شدّة أهمية الحاجة فيقول: (اللهم إني أسألك قليلاً من كثير، مع حاجة بي إليه عظيمة وغناك عنه قديم وهو عندي كثير) وهنا يرجع إلى التفصيل في العدل (اللهم إن عفوك...) وهكذا، نجد حديثاً مجملاً عن التوحيد ثم مفصلاً، وعن العدل مجملاً ثم مفصلاً، وعن الحاجة كذلك، ثم يصبح الجو مهيأ للعودة إلى الحمد وهنا مدرسة في التوحيد ثم تتعاظم الحاجة للداعي، فيتحدث بلغة (من لي غيرك..؟) ثم يعود إلى استشعار هيبة القهار حتى لا يغلب الرجاء الخوف فيقول (الحمد للَّه الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها...)، وهكذا اكتملت دورة تثبيت التوحيد والتوازن النفسي وعرض الحاجة... ولكن، يبقى أن الذنوب قد تكون أخلقت وجهي عندك، وهنا يأتي دور التوسل (اللهم إن كانت ذنوبي أخلقت وجهي عندك فإني أتوسل إليك بالمصطفى الحبيب وآله الأطهار)(2). وموقع النبوة، هو الموقع المحوري، فنحن نرتبط بأهل البيت (ع) لأنهم أهل بيت رسول اللَّه (ص)، ولا علاقة برسول اللَّه (ص) إلا لأنه رسول من اللَّه، والعلاقة برسول اللَّه في دعاء الافتتاح علاقة قوية وحاضرة دائماً، وهذا التكرار في المدح مقصود به التأكيد... ثم يأتي دور الإمامة، ونلاحظ أن الحديث عن الإمامة يتناول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والصديقة الزهراء عليهما السلام وسبطي الرحمة وأئمة المسلمين... ثم هناك التأكيد على العلاقة الخاصة بولي الأمر وصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه (اللهم وصل على ولي أمرك القائم...) ثم يصل بالدعاء إلى تحديد المسار العملي والمسار السياسي، (اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله). ثم يؤكد الدعاء على حال المؤمن في زمن الغيبة، فمن أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم (اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا، وغيبة إمامنا...).
* س: يبدو كأن دعاء الافتتاح مخصص لعصر الغيبة، وقد ورد في آخره: (واهدنا به لما اختلف فيه من الحق)، فهل هذا إشارة لإقامة الحجة عند ظهوره عجل الله تعالى فرجه؟
ج: بعد هذه الجولة مع دعاء الافتتاح، يمكننا أن ندرك بشكل أفضل مدى أهمية دعاء الافتتاح في بناء الشخصية المؤمنة، فبمجرد أن يكون الدعاء مؤقتاً بوقت معين، يعني أن هذا الدعاء يمكن أن يحقق في بناء الشخصية ما لا يمكن أن يحققه أي دعاء آخر، كما أن الفاكهة في موسمها غير الفاكهة في غير موسمها، فشهر رمضان أفضل الشهور... واختيار هذا الدعاء ليقرأ كل ليلة، يعني أنه من أفضل الأدعية، ومعنى ذلك أن من يحرم نفسه من التفاعل معه ليلياً، يحرم نفسه من خير كثير، لأن دعاء الافتتاح في كل ليلة من ليالي شهر رمضان بمجموعه، له نتيجة لا تحصَّل إذا لم يواظب المؤمن على قراءته. صحيح أنه لو قرأه مرّة واحدة سيستفيد منه، لكن النتيجة الحاصلة من مجموع الدعاء في ليالي شهر رمضان، تتوقف على المواظبة. أما بالنسبة لموضوع الهداية، فإنه يمكن أن تتحقق به سلام اللَّه عليه حتى في زمان الغيبة، وقطعاً هي تتحقق عند ظهوره عجل الله تعالى فرجه، لأن العلماء متفقون على أن الإجماع حجة إذا كشف عن رأي المعصوم، ولذلك يقولون في كثير من المصادر(3) إن الإمام عجل الله تعالى فرجه إذا رأى أن الأمّة ستجتمع على خطأ فإنه يصرفها عن ذلك بإلقاء الرأي الحق. إذاً قد تتحقق الهداية في زمن الغيبة، إضافة إلى أن علماءنا مجمعون على إمكانية التشرف بلقاء الحجة عجل الله تعالى فرجه، فقد تصل الهداية عن هذا الطريق، إضافة إلى أن دور الإمام عجل الله تعالى فرجه كالشمس كما ورد في رواية عنه بمعنى أن الشمس حتى ولو توارت خلف السحب فهي تؤثر في نمو الأجسام والأشجار وما شاكل، كذلك الإمام سلام اللَّه عليه بمجرد وجوده، يمكن أن تصل أنواره الهادية في عصر الغيبة، ولا يتوقف ذلك على الظهور، ولكن عند الظهور تكون الهداية أشد وأقوى.
* س: هل تعتقدون أن المسلمين يؤدون حق الدعاء، أو أنه لا بد من الحث أكثر على الدعاء؟
ج: أود أن أذكّر إخواني بحالة الدعاء العامة التي انتشرت في جميع البلاد الإسلامية أثناء الحرب الأخيرة في تموز 2006، والتي أعتقد وفي ضوء آيات القرآن الكريم والروايات الصحيحة أنها كانت أساساً في تحقيق النصر الإلهي. وبعد انتهاء الحرب في 14 آب، كان المطر ينزل بغزارة في مختلف المناطق، وهنا أتذكر الحديث الشريف وهو: (ما من عام بأكثر مطراً من عام آخر، ولكنه يُمطَر قوم ويُحرَم قوم آخرون)(4)، وإنما يصرفه اللَّه تعالى من بلد إلى بلد بذنوب العباد، وبالمقابل، فإن الطاعات تجعل المطر يقبل إلى هذا البلد أكثر من غيره ومن هنا فلسفة صلاة الاستسقاء ونحن اليوم أشد حاجة للدعاء منا في مرحلة الحرب، لأن الأعداء الذين أدركوا قوة الإسلام والقرآن، يخططون بكل ما أوتوا من قوة لإعادة الاعتبار إليهم، ولن يقدروا إن شاء اللَّه، لكن، ينبغي علينا أن نحافظ على حالة الدعاء، لتكون أقوى مما كانت أثناء الحرب، وهذا أحد معاني قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: 41) ولا يمكن أن نفصل بين إقامة الصلاة والدعاء، فالصلاة لغة الدعاء، كما ذكر ذلك الزبيدي في تاج العروس ج19 ص606، ومنه قوله "وصلِّ عليهم أي ادع لهم"، والحمد للَّه رب العالمين.
(1) الشيخ مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب اللَّه المنزل، ج4، ص252، من رثاء الرسول صلى الله عليه وآله لعمه أبي طالب رضوان الله عليه.
(2) الكفعمي، المصباح، ص296، والسيد ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج1، ص221.
(3) راجع: الشريف المرتضى، رسائل المرتضى، ج1، ص11 و205 وابن زهرة الحلبي، غنية النزوع ص28 والمحقق السبزواري ذخيرة المعاد (ط.ق) ج1، ق1، ص50... الخ.
(4) الرازي، تفسير الرازي، ج19، ص174 والرواية عن ابن عباس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله.