د. يوسف مَدَن
ذكرنا في الأعداد السابقة أنّ قيم تنظيم السلوك الواردة
في دعاء الافتتاح تعمل على ضبط السلوك في اتّجاه واحد. وتحدّثنا عن مبدأين من
المبادئ السلوكيّة-السيكولوجيّة: مبدأ البحث عن اللذة وتجنّب الألم، ومبدأ طلب
العفو عن الذات، ونستكمل الحديث، في هذا العدد، عن المبدأ الثالث.
*مبدأ مراعاة الحالة الانفعالية
تترك الانفعالات النفسيّة، بمختلف أنواعها، تأثيراتها الإيجابيّة أو السلبيّة على
سلوك الكائن الحيّ، فتؤثّر على وظائفه الداخلية ومظاهر النشاط في الأعضاء الخارجية.
ومن الصعب، أن يتمّ تنظيم علاقتنا بالله دون تأثير مباشر أو غير مباشر للانفعالات.
ونلمح في نصّ دعاء الافتتاح أكثر من إشارة لهذا التأثير الوجداني في حياتنا
الآدمية، حيث تعبّر هذه الإشارات عن أنماط انفعاليّة تساعد على مسار العلاقة بيننا
وبين ربّ العباد، وتمهّد إلى أحد طريقين: إما تقويتها أو إضعافها، ولكن عبارات
الدعاء تدفع باتّجاه تقوية العلاقة أو علاج ضعفها بما يخدم الأهداف العباديّة
للدعاء.
*الجانب الوجدانيّ في الدعاء
ففي الأسطر الأولى من هذا الدعاء نادى الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
ربّه بـ"الغفور" ليمكِّن عباد الله، من جموع المنتظرين، من إقالة عثراتهم، والسيطرة
على أنفسهم. ثمّ خاطب ربّه عزَّ وجلّ بلغة تعزّز علاقته وعلاقتنا به، فجميع مفردات
خطابه تعبّر عن جانب وجدانيّ محض، وذكر عجل الله تعالى فرجه الشريف: عمليّة تفريج
همومنا، وكشف الكربات التي تواجه المنتظرين، ورفع زلّات أخطائهم، ونشر الرحمة.
وجميع هذه القضايا السيكولوجيّة هي وجدانيّة وعاطفيّة في المقام الأوّل، حتّى وإن
اختلطت بقضايا ذات طبيعة عقلية واجتماعية، فالهموم الحياتية والنوائب والرحمة، ذات
طبيعة انفعاليّة وتعبّر في غالبها عن حالات ضيق أو حالات رحمة وحنان وشفقة،
وكلتاهما مظهران للسلوك العاطفيّ يؤكّدان على حدوث تطوّر إيجابي يتيح للمنتظرين
بناء علاقة أفضل متى وقعت في حياتهم.
*الدعاء يعبّر عن حالة انفعاليّة
ويمضي الدعاء في بعض مفرداته اللفظيّة، فيمرّ على حالات انفعالية مماثلة، كالرحمة
والبهجة، أو يضيف عليها حالات جديدة، هي جزء من طبيعتنا البشرية. ونذكر منها كلمات
الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف لله سبحانه وتعالى كقوله: "رزقتني من
رحمتك، وأريتني من قدرتك، وعرّفتني من إجابتك، فصرت أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً
لا خائفاً ولا وجلاً"(1).
فهذه الفقرة تقابل بين حالتين من السلوك الانفعاليّ الذي نعيشه في حياتنا اليوميّة
وهما:
أ - (الأمن ويقابله بالضدّ الخوف أو الوجل)، وكلاهما انفعالان طبيعيّان في تركيبتنا
الآدميّة.
ب - أما الحالة الثانية فهي (الاستئناس) أو السرور والفرح والبهجة وما يصاحبها من
سعادة داخليّة تغمر نفسيّة الفرد وتستثير همّته وإرادته.
*الوصول إلى صلة وثيقة بين العبد وربّه
تنحو كلمات من هذه الفقرة، من الدعاء، باتّجاه تقوية العلاقة بين العبد وربّه
سبحانه، إذ تدخل في سياج النسيج العام الذي يستهدف بناء هذه العلاقة ألفاظ إيجابيّة
تؤكد على الصيغة الإيجابيّة الصادرة عن العبد المؤمن على الأقل مثل قول الإمام
المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف "رزقتني من رحمتك، وأريتني من قدرتك، وعرّفتني
من إجابتك"، وتتعزّز هذه العلاقة بإشارته عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى حدوث
تحوّل إيجابي في نفسيّة الداعي وسلوكه يتضمَّنُ علامة على صلة وثيقة بينه وربّه
سبحانه، فلنتأمل في كلمات الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهو يصف
وصفاً إيجابيّاً علاقته مع الله عزَّ وجلّ: "فصرت أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً
لا خائفاً ولا وجلاً".
"لم أرَ مولى (مؤمَّلاً) كريماً أصبر على عبد لئيم منك عليَّ يا رب، إنك تدعوني
فأولِّي عنك، وتتحبب إليَّ فأتبغض إليك، وتتودد إليَّ فلا أقبل منك، كأنَّ لي
التطوُّل عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي، والإحسان إليَّ، والتفضل عليَّ بجودك
وكرمك، فارحم عبدك الجاهل، وجد عليه بفضل إحسانك، إنك جواد كريم"(2).
*مظاهر الرحمة
وتتآزر مع الحالات الانفعاليّة السابقة جمل وعبارات تعبّر عن نماذج أخرى من الحالة
الإيجابية للعلاقة بين الله وعبده كقوله عجل الله تعالى فرجه الشريف: "لم يمنعك ذلك
من الرحمة لي... فارحم عبدك الجاهل... الحمد لله على طول أناته في غضبه... وحلمك عن
كثير جرمي... وكم من موهبة هنيئة قد أعطاني، وعظيمة مخوفة قد كفاني، وبهجة (فرح
وسرور) مونقة قد أراني"(3). وجميع هذه الحالات من رحمة وضبط غضب وبهجة وحلم عن قبيح
عمل، وكفّ النفس عن الوقوع في خوف، ومنح فرص البهجة في حياة المنتظرين تشهد على
حكمة الله ورحمته سبحانه ورعايته لنا، وتعبّر عن مظاهر متعددة للسلوك الانفعالي.
*انفعالات وجدانيّة
وهكذا فإنّ الدعاء الذي نعالجه بالبحث والتحليل للكشف عن مبادئ تنظيم السلوك يذكر
في مواضع - هنا وهناك - حالات وأنماطاً من السلوك الانفعالي كالهموم والكُربات
المصحوبة بالأحزان، والخوف، وهي من النوع الذي يصفه علماء النفس بـ"الانفعالات
الخامدة". أما انفعالات الفرح، والحب، والحنان، والغضب التي تصاحبها إثارة وجدانيّة
نشيطة فيدرجها هؤلاء العلماء في تصنيفهم كـ"انفعالات ثائرة". وخلاصة ما يراد قوله:
إن الانفعال سواء كان خامداً أو من الانفعالات الثائرة فهو انفعال هادف يبتغي تقوية
العلاقة الكبرى بين الإنسان وربه سبحانه كما يرسمها كلام الإمام المهدي عجل الله
تعالى فرجه الشريف.
1- إقبال الأعمال، ابن طاووس، ص328.
2- م.ن، ص328.
3- م.ن، ص328 - 329.