عدي الموسوي
لا يخفى على المتابع أن حرب تموز عام 2006 والتي شنّها العدو الصهيوني على شعب لبنان ومقاومته قد شكّلت محطّة بارزة في دنيا الكتاب وإصداراته، حيث رفدت أحداثها وتداعياتها الأقلام بمادة غزيرة، كانت نتيجتها عشرات العناوين التي صدرت خلال الشهور الأخيرة، فيما يتوقع صدور أخرى لاحقاً. في الصفحات التالية، سنسلّط الضوء على نماذج من هذه الإصدارات التي تنوّعت أساليبها ومناهجها في معالجتها لهذا المفصل التاريخي بأبعاده المختلفة. وهنا نقدّم القسم الثاني والأخير:
* وشهد شاهد من أهلها:
"هزيمة الخصم لا تقدّر بما تدمّر له من دبابات ووسائل قتالية أو بما تقتل له من الجنود، وإنّما بالقدر الذي تؤثّر فيه على وعيه" هذه المقولة هي لواحد من أشهر رجال استراتيجيا الحرب الحديثة وهو الإنكليزي ليدل هارت، وهي مقولة تتصدّر إحدى المقالات والتحليلات التي كتبت بعيد حرب تمّوز 2006 في واحدة من صحف الكيان الصهيوني، وقد اقتبسها كاتبها ليشير بشكل غير مباشر إلى الهزيمة الصهيونية في هذه الحرب. وهذه المقالات والدراسات هي موضوع عدد من الكتب التي صدرت في هذا المجال، ومنها كتاب "33 يوم حرب على لبنان: أطول الحروب وأكثرها فشلاً وتكلفة"، ترجمة أحمد أبو هدبة (مركز الدراسات الفلسطينية)، وكتاب "الفشل الإسرائيلي في لبنان" لأنطوان شلحت (مركز مدار رام اللَّه).
في هذين الكتابين نحن أمام كم كبير من المقالات التي كتبت في أغلبها أثناء وبعيد الحرب العدوانية للكيان الصهيوني على لبنان، وهي مقالات ترسم صورة مجملة وأوّلية لبوادر إحساس رجالات الكيان الغاصب وباحثيه بشدة المأزق الذي أنتجته حرب صيف 2006، هذا المأزق الذي سيتزايد الإحساس به في هذه المقالات كلّما طالت أيام الحرب، لتصرّح بعض هذه الأقلام بحجم الفشل البنيوي لقوة إسرائيل الرادعة، وضرورة استخلاص العبر قبل فوات الأوان، مع ملاحظة أن هذه المقالات أعدّت قبل صدور تقرير لجنة فينوغراد، وقبل تكشّف جميع تفاصيل (الفشل) الإسرائيلي في جنوب لبنان. الكتابان يقدّمان توثيقاً تأريخياً لتجلّي الهزيمة الإسرائيلية مع توالي فصول الصمود الإعجازي للمقاومة وجمهورها.
* انتصار المقاومة ونهضة الوعي العربي:
يعد كتاب "الانتصار التاريخي للمقاومة في لبنان وإعادة تشكيل العقل العربي" للدكتور بلال نعيم (دار الهادي بيروت)، واحداً من المحاولات الهادئة في التأسيس لأثر الفعل المقاوم ونجاحه في إعادة التأصيل لنهوض العقل العربي، هذا العقل الذي تأسس خلال فترة طويلة على (مدخلات سلبية) امتدت منذ العام 1948 ونكبة فلسطين مروراً بنكسة 1967 وما تلاها من انكفاءات عربية، رسّخت روح الهزيمة في العقل العربي، وبالتحديد في جانبها الحضاري وهو الجانب الأخطر.
من هنا، فإن هذا الكتاب يرى أن انتصار المقاومة في حرب تمّوز 2006 قد أعاد الاعتبار إلى مقوّمات الإبداع العربي، محققّاً نوعاً من التوازن الداخلي للعقل العربي، ما سيخرجه من تداعيات (المدخلات السلبية) وما رسّختها من روح الهزيمة، وبالتالي إعادة الاعتبار للفعل الحضاري العربي وإبداعه المتجسّد في فعل المقاومة بشقّيه العسكري والحضاري، وهو ما يمكن أن يمهّد للتوازن الحضاري مع العدو والذي يحفّز نحو إمكانية التفوّق المستقبلي بعد وضع العدو في حجمه وسياقه التاريخي الطبيعي. يبقى أن نشير إلى أن مضامين هذا الكتاب، وكما أشار مؤلفه، تم استيحاؤها من خلال النقاشات مع الوفود العربية التي أمّت ضاحية بيروت الجنوبية بعد حرب تمّوز.
* المقاومة كمنطق وضوح:
في كتابه الجديد: "المقاومة في ميزان الاستراتيجيا" (دار الهادي بيروت)، يحاول الدكتور حسن جابر أن يؤسس للأبعاد الحضارية والتاريخية والتنمويّة للمقاومة وشعبها، منطلقاً من رسم سريع للمشهد السياسي العربي والعالمي حيث الفعل السياسي في أغلبه هو فعل مكر وخديعة، أو هو لعبة أقنعة مزيّفة. ليأتي الفعل المقاوم بأبعاده الحضارية مستنداً إلى بنيته الدينية العقائدية، ليكون ردّاً صريحاً على ذاك الخداع، حيث منطق المقاومة هو منطق وضوح لا يتوخّى حامله التستر والمخاتلة، لم لا، وحامل هذا النهج هو مشروع شهيد، وهي كلمة مشتقة من الشهادة والشهود وهو الوضوح والانكشاف بأصدق معانيه.
من خلال هذا التأسيس سيقدّم الكاتب تحليله لأهمية الفعل المقاوم ومنطقه، ومكانته في خريطة الاستراتيجيا لا في لبنان فحسب، بل وفي المنطقة والعالم الإسلامي، محاولاً البحث في أسرار الصمود، لا صمود المقاومة فحسب، بل وصمود شعبها الذي أذهل القريب والبعيد على حدٍّ سواء. مع تأكيد الكاتب على السمّو الإنساني لهذا المنطق، هذا السمو الذي سيترجم في ختام الكتاب عدداً من النصوص الوجدانية للمؤلف التي تمزج العقلاني بالإنساني في محضر المقاومين والشهداء.
* البعد الغيبي في حرب تمّوز:
كثيرة هي القصص التي تناقلتها الألسن ورواها مجاهدو المقاومة عن ألطاف وكرامات إلهية كانت السبب في توفيق المجاهدين وتسديد رمياتهم. حتى إذا جاءت حرب تمّوز 2006 تواترت هذه الروايات وتعدّدت، وهو ما شكّل موضوعاً تصدّى له عدد من المؤلفات ومنها: "أسرار وكرامات رجال اللَّه" للسيد محسن النوري الموسوي (دار الكاتب العربي بيروت)، و"كرامات الوعد الصادق" لماجد ناصر الزبيدي (دار المحجَّة البيضاء). هذه الكتب تحاول أن تعيد التأسيس لفكرة اللطف الإلهي والكرامات التي يخص بها اللَّه المجاهدين في سبيله. وهي ثقافة ليست بجديدة فتراثنا التاريخي الإسلامي حافل بها وبقصصها. ولكن مع تغييب البُعد الديني للفعل المقاوم خلال سنوات طويلة، ومن ثم بعث هذا البعد في عدد من حركات المقاومة المعاصرة ومنها المقاومة الإسلامية، ومن ثمّ بروز قصصها خلال ملحمة تموّز 2006، فإنه قد نفض الغبار عنها، وعاد الاهتمام إليها. وهو ما كان يستدعي من الباحثين في هذا الجانب تأنّياً أكبر في معالجتها، ومنهجية أوضح في التطرّق لمفرداتها، وتلك من متطلّبات العمل في إعادة التأصيل لأي فكر أو قضية ما.
* حرب تمّوز في سياقاتها التاريخية والإقليمية والدولية:
نحن أمام كتابين ولدا من رحم حرب تمّوز، رغم أن مادتهما قد تبلورت عبر سنوات طويلة تعود أحياناً إلى بداية القرن العشرين، وتؤسس المنظومات الحديثة في المنطقة والعالم. الكتابان هما: "حرب ال 33 يوماً" لجيلبير الأشقر وميخائيل فارشفسكي (دار الساقي بيروت) و"تدمير لبنان: الهيمنة على الشرق الأوسط" لتيري ميسان (شركة الخليج بيروت).
والملفت هنا أن هذين الكتابين، ومن خلال قراءتهما الرصينة، يستندان إلى خلفية تاريخية توغل في ماضي المشاريع الاستعمارية الكولونيالية وتداعيها زمن استقلال البلدان العربية، ما استدعى نشوء المشروع الاستعماري بصيغته الإمبريالية المتمثّل في الولايات المتحدة الأمريكية. من هنا، فإن الكتابين يؤكّدان على البعد الإمبريالي لحرب تمّوز 2006، وأنّها كانت حاجة أمريكية ملحّة، تولّت (إسرائيل) القيام بها ففشلت، لتشكّل نتائج الحرب حلقة جديدة من تخبّط المشروع الأمريكي، وتداعي نظرياتها الإخلاقية والعسكرية في حروبها (المابعد بطولية)، حيث أثبتت حرب تمّوز فشل المنهج (المابعد بطولي)، وأكّدت نجاعة خيار الشعوب في سعيها نحو مشاريعها التحررية، مع تأكيد الكتابين على أنّ المشروع الأمريكي رغم تراجعه ما زال قوياً وقادراً وساعياً إلى افتعال العديد من بؤر التوتّر والفتن في منطقة الشرق الأوسط.
* الحرب الإعلامية:
لئن أجمع المراقبون على ضراوة وقائع حرب تموّز 2006، فإنّهم أجمعوا أيضاً على أنّها كانت من أهم الحروب الإعلامية والنفسية. وفي هذا السياق يأتي كتاب: "إسرائيل وحزب اللَّه: الحرب النفسية" لعبد الحليم حمّود (دار ومكتبة الهلال بيروت) ليسلّط الضوء على هذا الجانب، بدءاً بإعلام حزب اللَّه نشأة وتطوّراً وخصوصاً قناة المنار الفضائية، مروراً بمفردات الدعاية الصهيونية منذ نشأتها، وانتهاءً بالأداء والتغطية الإعلامية خلال الحرب، مع إفراد مساحة مهمّة لشخصية الأمين العام لحزب اللَّه السيد حسن نصر اللَّه، والذي كان واحداً من أهم أبطال المعركة الإعلامية قبل الحرب وخلالها وبعدها. ويقدّم الكتاب أفكاره مستعيناً بكم كبير من الإحالات والمصادر والمراجع، بل وحتى المشاهدات الشخصية لوسائل الإعلام وخصوصاً المرئية منها، ليخلص في النهاية إلى نتيجة أن علم الدعاية والحرب النفسية لدى حزب اللَّه والمقاومة، قد قطع شوطاً كبيراً، ففاجأت المقاومة أعداءها عسكرياً وبالتالي نفسياً، ليكون "نصرها بعيون مفتوحة، وهزيمة الصهاينة بعيون مغمضة".
* خاتمة:
من خلال عرضنا لنماذج متعددة من إصدارات (مكتبة الوعد الصادق)، يتبيّن لنا أن الكثير منها كان ذا منحىً تجميعي توثيقي، وأن منها ما ساقته الحماسة والنوايا الحسنة والاستعجال أكثر من وضوح الرؤيا والمنهج، ليقع البعض منها في بعض السقطات المنهجية والمضمونية، في حين قدّم البعض محاولات تأسيسية مهمّة، تستدعي أن يكمل أصحابها جهدهم لاحقاً في سبيل تأسيس أوضح، وتأصيل أكبر لثقافة المقاومة والانتصار كفعل حضاري وإنساني، قبل أن يكون فعلاً عسكرياً.