أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

تربية: المعلم والتلميذ: من الضمور إلى الحياة

د. حسن سلهب(*)

 



صحيح أن تاريخ التعليم يشهد على نجاحات هائلة لنسبة كبيرة من المعلمين، لكن هذا التاريخ نفسه يشهد على إخفاقات خطيرة لنسبة ملحوظة منهم في كيفية التعامل مع التلاميذ في الصف المدرسي. وعلى هؤلاء المعلمين السعي لزيادة نسبة النجاح والحرص على الحد الأدنى المقبول من العلاقة مع التلاميذ في الحالات المعقدة أو الصعبة. وفي ما يلي بعض المقترحات المفيدة في هذا المجال:

* القدرة على وصف وتفسير سلوك التلميذ:
العبارة ليست جديدة، لكن التدقيق في مستوى التطبيق يجعلها جديدة. لا يزال معظم المعلمين يتجهون رأساً إلى الحكم على نوع السلوك، من دون المرور بمرحلتي الوصف والتفسير. في الماضي كانت استراتيجية فرض القرار أو النظام، بالقوة والسلطة، تضع حداً في الظاهر العام للمشكلة، تاركة التداعيات الداخلية تفعل فعلها الخطير على مستوى نظرة التلميذ لذاته. اليوم ومع التخلي عموماً عن السلاح السابق (الضرب، الإهانة، الطرد) غدا المعلمون مكشوفين أمام التلامذة ولا حيلة لديهم معهم. اليوم يواجه المعلمون تلامذتهم بصورة مثيرة جداً، وعليهم أن يركزوا على السلوك ذاته بدل مقاومته أو اعتباره شواذاً. نعم، القدرة على الوصف وتفسير السلوك مقدِّمة ضرورية للتعاطي السليم معه. في الكثير من التجارب الماضية كانت الفترة بين السلوك اللامقبول للتلميذ وتصرُّف المعلم شبه معدومة، حيث كان السلوك أشبه بعود ثقاب، وأعصاب المعلم كالهشيم المنهك أمامه، ويكفي تحريك عود الثقاب هذا كي ينفجر الهشيم ناراً وجحيماً. الآن نقترح الفصل بين سلوك التلميذ وتصرّف المعلم، بفترة ملحوظة، على أن لا تكون هذه الفترة لاختبار قدرة المعلم على الصبر، وبالتالي إمساكه بأعصابه وأنفاسه (كما هو سائد لدى المعلمين الطيبين).

نقترح الفصل بفترة هي فترة الوصف والتفسير. ونعتقد أن الكثير من السلوكيات غير المقبولة تحتمل تأجيل التعامل معها، أو على الأقل تخديرها ببعض المواقف الاستيعابية أو "التنفيسية". ونعني بالوصف والتفسير أن يكون المعلم قادراً على استعادة السلوك بحيثياته كافة مثال: "في بداية الحصة قام زيد من التلامذة بتمرير نادرة إلى زملائه لحظة وصول المعلم، وبعد دقائق نادرة أخرى وأرسلها إلى زميله في الطاولة الأمامية، طالباً منه نقلها إلى زميلٍ آخر، ثم أخذ بإحداث صوت واضح بقلمه على الطاولة، ثم بعد ذلك طلب من المعلم الإذن للخروج إلى المرحاض، وبعد عودته قام من مكانه شاكياً من زميله الذي استعار قلمه من دون أخذ الإذن منه، والمعلم يراقب تصرفات هذا التلميذ محاولاً ضمه إلى زملائه دون نجاح". إذاً، هذا النوع من الوصف يساعد المعلم على تفسير السلوك بطريقة مفيدة، وبالتالي يجنبه اعتماد التفسيرات العامة المضرة (تلميذ لا يريد التعلّم، تلميذ يريد تعطيل الحصة، تلميذ يستغل طيبة المعلم). لن يعدم المعلم وسيلة، على العموم، يتجنب من خلالها تداعيات سلوك هذا التلميذ على زملائه، ريثما يتضح له التفسير المفيد لهذا السلوك الذي، على ما يظهر في هذه الحالة ، يعبِّر عن هروب التلميذ من أعمال الحصة، ربما لاعتقاده أنه لا يملك الاستعداد الكافي للنجاح. إذاً، فرضية هذا الاقتراح (فترة الوصف والتفسير) تقوم أساساً على أن غموضاً شديداً يكتنف التواصل بين المعلم والتلميذ، وأن جلاء الغموض ليس عملية سريعة أو بسيطة، خصوصاً عند المبتدئين أو الذين لم يتدربوا على هذه المهارة.

* القدرة على وعي تطوُّر التلميذ ومواكبته:
هذه القدرة قد لا تكون جديدة في صياغتها، لكن لا تزال جيدة في مضمونها وملحة في ضرورتها. ونعني بالتطوّر هنا كل أشكاله ومستوياته، سلبياته وإيجابياته، ثوابته ومتغيراته، مع بعض التركيز على التطوُّر المرتبط بانتقال التلميذ من التأخر الدراسي إلى الانتظام في جماعة الصف. إن هذه القدرة تبدو ملحة اليوم بقدر أهمية الخروج بالتلميذ من حالة التأخر هذه، وما يتطلبه ذلك من إقبال المعلم على أي جديد للتلميذ بذهنية محلّلة ومتأمِّلة. تنسحب هذه القدرة على وعي التطوّر، ليس فقط عند حدوثه ووقوعه، بل أيضاً في تقديره وتوقعه. فالمعلم مثلما يضبط مظاهر التطوُّر، يستعد لها، ويؤمِّن متطلباتها ومستلزماتها، سواء أكانت سلبية أو ايجابية. إن مرور التلامذة في إجازة طويلة كإجازة الصيف، أو في أوضاع طبيعية غير عادية كعواصف الثلوج الممتدة لأيام، أو تعرُّض مجموعة من التلامذة إلى أوضاع اجتماعية أسرية استثنائية (مرض، طلاق، وفاة) أقول: إن مرور التلامذة في مثل هذه الظروف يتطلب توقعات مسبقة عند المعلم، وبالتالي إنجاز استعدادات واتخاذ قرارات تتلاءَم مع هذه الأوضاع. ومن قبيل التجاهل الكامل لهذه الظروف أن يعتبرها المعلم بمثابة اختبارات أو تحديات على التلميذ الفوز فيها أو تجاوزها بنجاح، بل من قبيل الظلم لا يقوم المعلم بتحديد فرص جديدة، ومجالات تعاون كافية لهؤلاء التلامذة في سبيل استعادة الظروف والمناخات الضرورية بغية تحقيق الإنتاجية المطلوبة. والتطوُّر بالإضافة إلى ما تقدَّم ، يشمل كل أنواع السلوك الجديد التي قد يرتاح إليها المعلم أو يتعب، يتمناها أو لا يتمناها. نعرف جميعاً كم هي مدهشة، ومحل إعجاب كبير، بعض الأعمال والانجازات التي يقدِّمها تلامذة اليوم، في الوقت نفسه، كم هي مزعجة ومحل توتر شديد، بعض السلوكيات الشاذة التي يمارسونها اليوم أيضاً. ومع الأسف الشديد إن قدرات التلامذة في هذين النوعين متشابهة في أحيان كثيرة، وإن العوامل التي تفجِّر طاقات إدراكية وتعبيرية جديدة عند التلامذة هي نفسها تقف خلف سلوكياتهم المنفِّرة والمزعجة. ومن الطبيعي قبول وتفهم الاثنين معاً أولاً، ثم تنقية وتهذيب ما نراه بحاجة إلى ذلك. وإن ما يتعين فعله في هذا المجال استثمار الوقت وعدم هدره في مواجهة خاسرة، والجميل هو الخروج بنتائج مدهشة في وقت مبكر.

* الاحتفاظ بشكل ملحوظ بالحيوية والانفعال الايجابي:
جرى الحديث مطوَّلاً حول هذه الحيوية لكن على ما يبدو لم يُتطرَّق بصورة أساسية إلى الجانب الطبيعي فيها، بل إن الاتجاه العام ركَّز على الجانب الإرادي أو التربوي، أي أن التركيز كان على تنفيذ جملة إجراءات ميدانية (حركة، إيماءات، نظرات، تنوُّع صوت) أكثر من غيره، ومع أن الأمر يُطلب بهذه الطريقة، إلا أن الوقوف عند هذه الظواهر على أهميتها يجعل الموضوع بمنأى عن التطوير الحقيقي. من هنا نطرح الاهتمام بالعمق النفسي للمعلم ببعديه الوراثي والتربوي، للنظر في إمكانية تأجيج طاقته النفسية كقوة عامة يتم التعبير عنها في الواقع الميداني من كل الأبواب المتاحة. إننا نطمح إلى التعامل مع هذه الجذوة التي تشتعل في داخل المعلم والتي تقف خلف كل المظاهر الحيوية له، وتدفعه دائماً نحو الجهد والسعي. كيف يتسنى لكل معلم تحقيق حالة الانفعال الذاتي بصورة إيجابية، من دون أن يكون ذلك مرتبطاً ارتباطاً مصيرياً بالخارج؟ كيف يتسنى للمعلم المثابرة على وضع نفسي متوقّد؟ كيف يتجنب هذا المربي لحظات الفتور أو البرودة التي تهدِّد الحياة الصفّية في الصميم؟ وبعبارة موجزة، ما الذي يدور في رأسه ونفسه عندما يبدو في منتهى الحماسة والرغبة أثناء قيامه بمهمته؟ لا شي‏ء في الصف، وخلال هذا الوقت الطويل الذي يقضيه التلامذة والمعلم فيه، يبعث على الحياة: الجدران، المقاعد، الوجوه، الكتب، وحتى اللوح كل ذلك سيبدو بعد وقت قصير من النظر إليه أشياء لا معنى لها.

وفي ظل هذه الأوضاع تغدو لحظة الانصراف، وفرصة الاستراحة وكذلك الفترات الفاصلة بين الحصص، وبعض الدقائق التي تسمح بها شخصية المعلم الطيبة أو الضعيفة، أقول هذه الأوقات والفرص، تمثل بالنسبة للتلامذة مواعيد للتنفس الطبيعي وبالتالي التزوُّد ببعض الأسباب التي تبقي على الحياة في سفر اليوم الطويل. كيف يستطيع المعلم الانتقال بتلامذته من هذا العالم الراكد، العديم الانتاجية، إلى عالم آخر تنشط فيه كل النفوس، وتتألَّق بإدراكاتها وإبداعاتها؟ كيف يستطيع المعلم الخروج بتلامذته من هذا الموقف الذي يهدرون فيه كثيراً من أعمارهم وقدراتهم ويخمد جذوة النمو في نفوسهم؟ بكل بساطة يتم ذلك عبر إشاعة الحياة في صفه، وتجنيب الجميع أي نوعٍ من الموت أو الضمور، حتى لو كان مؤقتاً أو محدوداً. ولعمري لن نعدم الموت بالموت، ولن تبعث الحياة إلا بالحياة.


(*) مدير الإشراف التربوي في مدارس الإمداد.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع