مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قلاع الوعد الصادق: الطيبة مصيدة غولاني والميركافا

إيفا علوية

 



وتكسَّرت أمانيه عند عتباتها. تراءى للعدو في دغدغات أحلامه الواهية، وسراب خيالاته الواهمة وهو يرسل طاقماً من صفوة ألويته "غولاني"، أنه سيجني غلة وافرة من طِيب ثراها. سوّلت له نفسه أن يغرز أنيابه في جنباتها الوادعة، وأن يشتهي منها وجبة طيبة دسمة يسد بها رمق جوعه المتهالك إلى ترياق النصر بعد مُرِّ الهزيمة التي أذاقه إياها رجال الله في محاور البطولة في عيتا الشعب ومارون الراس وبنت جبيل وغيرها. لكن هيهات، ففي الطيبة - الأرض الطيّبة التي يعبق اسمها بمعاني الطيب والخير والجود والنعمة، والتي لا تُخرج طيبها إلا لأبنائها المتجذرين في عمق ترابها - جاء طعم الهزيمة متبّلاً بغصة العلقم التي خنقت هيبة جنود النخبة، وأغرقتها عند ضفاف الليطاني التي تفجرت حمماً وبراكين لاهبة تحت أقدامهم الغازية.

الطيبة :
• القضاء: مرجعيون
• الارتفاع عن سطح البحر: 725 م
• المساحة: 45000 دونم
• البعد عن العاصمة: 89 كلم
• البعد عن مركز القضاء: 18 كلم
• عدد السكان: 16000 نسمة.
• حدود البلدة:
من الشمال: وادي ومجرى نهر الليطاني وأرض بلدة دير ميماس.
من الشرق: أراضي بلدتي العديسة وكفركلا.
من الجنوب: بلدات العديسة، رب ثلاثين، بني حيان، طلوسة، و أرض وادي الحجير.
من الغرب: أراضي بلدات دير سريان و عدشيت والقنطرة.

يحتفظ أهالي الطيبة في خبايا ذاكرتهم بقصص تحكي يوميات التحدي والمقاومة والصمود، التي عاشوها خلال العدوان الإسرائيلي في تموز 2006. منذ اليوم الأول على العدوان، كانت الطيبة عُرضة لقصف وحشي مركّز على الأحياء والمنازل، لا سيما منها تلك المقابلة للأراضي المحتلة. لم يكن العدو قد اتخذ حينها قراره بالهجوم البري بعد، لكنه قرّر اعتماد أسلوب الغارات الجوية والقصف اليومي المكثف بهدف ترويع الأهالي، ودفعهم للمغادرة أو الوقوف بوجه المقاومين والتضييق عليهم. لكن، طوال الفترة التي توافرت فيها إمكانيات البقاء، ظلَّ الأهالي متشبثين بقرار الصمود، فحلَّ الذين يسكنون في الجهات المقابلة ضيوفاً عند جيرانهم في الأحياء الآمنة، وصاروا يتشاركون أرغفة الخبز وأطباق الموائد التي لم ينسوا أن يخصصوا حصة وفيرة منها للمجاهدين.

* من حكايا الصمود:
بالرغم من سيطرة أجواء الحرب القاسية كانت تسود أجواء من السكينة والاطمئنان في النفوس، رافقها إصرار شديد عند العديد من الأهالي على عدم مغادرة البلدة مسلِّمين أمرهم إلى الله. من هؤلاء عائلة أحمد علي خليل صالح المؤلفة من 17 فرداً، والذين رفضوا الخروج من البلدة، وأصروا على ملازمة منزلهم. يروي أفراد العائلة كيف انتشلتهم يد العناية الإلهية من الموت المحتم مرتين، فقد نجوا بأعجوبة لا يفسِّرها إلا حصول لطف إلهي منع طائرة العدو من إصابة الهدف، فنزلت حمم الغارة الجوية على المنزل الملاصق لمنزلهم فانتقلوا إلى منزل في حي آخر من البلدة. وبعد أيام، تكررت الأعجوبة التي أنقذتهم من غارة ثانية أصابت أيضاً المنزل الملاصق لمكان إقامتهم. ومع اشتداد وطيس المعارك، صار قرار المغادرة لازماً وضرورياً، لكن كيف السبيل إلى ذلك مع عدم وجود وسيلة نقل تقلهم إلى المكان المنشود؟ يحكي أحد أفراد العائلة - وهو من شباب المقاومة - القصة التي حصلت معه لإيصالهم إلى خارج البلدة: "قمنا بالسير مشياً على الأقدام باتجاه دير سريان مسافة 6 كلم. وقد اضطررت - لوجود اثنين من المسنين بين أفراد العائلة ممن لا يقدرون على المشي - لنقلهما على ظهري بالمداورة. كنت أحمل الواحد منهما وأمشي لأقطع به مسافة إلى الأمام، فأضعه أرضاً وأعود أدراجي لأحمل الآخر، فأجده وقد اجتمعت عليه الطيور الجارحة والحيوانات المفترسة لأنتشله من وسطها، وهكذا إلى أن أوصلتهم إلى المكان الآمن".

وهناك قصة محمد علي يحيى (78 سنة)، والذي رفض المغادرة هو وزوجته إلى ما قبل أواخر أيام العدوان، حيث أنقذتهم العناية الإلهية من الموت تحت ركام منزلهما الذي تهدَّم فوق رؤوسهما. كانا قد اعتمدا البقاء في الطابق الأرضي من منزلهما وكانا يدبّران حاجتهما من الطعام من حواضر البيت ومونته. وفي إحدى الليالي القاسية التي ضجّت فيها مسامعهما بأصوات القصف والغارات، كانت الساعة تقارب العاشرة مساء عندما اخترق منزلهما صاروخ إحدى الطائرات فأردى سقف الطابق العلوي، وبقي سقف الطابق الأرضي معلقاً بين الأرض والسماء، ما جعلهما يُحاصران تحت الردم والركام حتى الصباح. فقد حضر فادي(1) أحد شباب المقاومة فأخرجهما وأنقذهما، وشكرا له مساعدته، ودعوا له بالخير، من غير أن يعرفا أن الله سيوفقه لاحقاً لنيل درجة الشهادة في المواجهات.

قصص عديدة يخبئها أهالي بلدة الطيبة في ذاكرة الصمود. منها قصة حسين مبارك (80 سنة) الذي يعيش وحيداً في منزله، والذي صمد طيلة فترة الحرب في منزله المطل على مشروع الطيبة الذي شهد أقسى المواجهات بين رجال المقاومة وجنود الاحتلال. روى مبارك لأهالي البلدة قبل وفاته، بعد فترة وجيزة من انتهاء الحرب، كيف شهد تفاصيل المعارك والمواجهات، حيث كانت أصوات القذائف والصواريخ والرشقات تخترق مسامعه وهو جالس يدعو للمجاهدين بالنصر والتسديد.

* قصة آل نصر الله:
يحمل أهالي البلدة في ذاكرتهم أيضاً صور ومشاهد الوحشية والإرهاب الصهيوني الذي لا يقف عند أي حدود، والذي تجسَّد بالقصف اليومي المركّز على الأحياء المدنية، وذلك اقتصاصاً من صمودهم، وانتقاماً منهم لكسر إرادتهم في التحدي والمواجهة. فبالإضافة إلى البيوت التي سُوّيت بالأرض بفعل الغارات والتي بلغ عددها 250 بيتاً، فقد نال معظم بيوت البلدة نصيبه من القصف بالقذائف والصواريخ. وكذلك عمد جنود العدو المهزومون عند اختبائهم في بعض البيوت القريبة من مشروع الطيبة إلى تخريب البيوت، وتكسير أثاثها، وبعثرة محتوياتها، وتشويه جدرانها، تاركين الأوساخ والفضلات في أرجاء المنزل، فضلاً عن تدنيس الجدران بكتابات وعبارات قذرة وأخرى ساخرة متهكمة منها: "بيتكم جميل جداً، شكراً على حسن الضيافة".

لم يكتف جنود العدو بفصولهم هذه، بل كشفوا عن أبشع وجوه الغدر والوحشية بارتكابهم مجازر مأساوية بحق المواطنين، كما حصل مع عائلة هاني مرمر وأولاده أو مع عائلة نصر الله (الحاج أبو نزيه وزوجته وابنتهما وابنهما)، والذين حلّوا ضيوفاً في منزل الحاج سعيد نحلة (توفي بعد حرب تموز)، وقضوا معه أياماً توزعت أوقاتها بين إعداد وجبات الطعام، والاستماع إلى أخبار المذياع، والأنس بالصلاة، وتلاوة الدعاء. وجاءت ساعة القدر حين أصرّت الحاجة أم نزيه وابنتها على الذهاب قليلاً إلى المنزل لقضاء بعض الحاجات. ولما تأخرتا، لحق بهما أبو نزيه وابنه لتفقدهما، فلم يعودوا بالرغم من حلول الظلام واشتداد حرارة القصف. بقي الحاج سعيد قلقاً عليهم من دون أن يستطيع القيام بأي شيء حتى طلع الصباح، فأسرع إلى منزلهم ليطمئن عليهم، فوجدهم جثثاً هامدة مضرّجة بالدماء. ولمّا همَّ بالصراخ سمع صوتاً من الداخل يتهدده ويتوعده ويدعوه للمغادرة فوراً. كان ذلك صوت أحد جنود العدو الذين اختبئوا في منزل آل نصر الله ولم يرحموا أصحابه عندما رجعوا إليه.

* جنت على نفسها...
في كتاب الوعد الصادق، خطّ رجال الله في الطيبة سطوراً مضيئة بحروف العزة والمجد والبطولة التي قهرت نخبة جنود العدو، وصفوة ألويته، ومرّغت جباهم في مستنقعات الهزيمة النكراء عند تخوم مشروع الطيبة الذي جرّهم حظهم العاثر إليه، فوقعوا في مصيدته، وتحوّلت أرجاؤه إلى مقابر جماعية لأشلائهم الممزقة وميركافاتهم المدمرة. في اليوم التاسع عشر على حرب تموز، وبعدما اتخذت قيادة العدو قرارها بتوسعة الهجوم البري على الخط الموازي للحدود، وقع الاختيار على بلدة الطيبة كهدف استثنائي، يحققون كما صوّرت لهم أحلامهم بالاستيلاء عليه، نصراً معززاً لما تتمتع به البلدة من موقع استراتيجي ورمزي فائق الأهمية، كونها أكبر بلدات قضاء مرجعيون، وأكثر المناطق قرباً من الليطاني لجهة فلسطين، وتعلوها تلة المشروع التي تُتيح لمن يسيطر عليها الكشف والإشراف على القرى الجنوبية والمستوطنات الإسرائيلية المحيطة. رسمت قيادة العدو مخططها، وأرسلت في سبيل تحقيقه مجموعات مشاة معززة من لواء غولاني، ودفعتهم للتسلل عبر مستوطنة مسكاف عام ووادي هونين إلى منطقة مشروع الطيبة. لكن عين المقاومة الساهرة، وزنود أبطالها القابضة على السلاح، كانت لهم بالمرصاد. لقد حاصرهم المقاومون والتحموا معهم في مواجهات ضارية، ولاحقوهم من مكان إلى مكان بعدما عمدوا إلى التفرق والاختباء في المنازل المحيطة.

* "دحنون" في مواجهة "غولاني":
سجّل أبطال المقاومة خلال المواجهات في المشروع - والتي استمرت حتى نهاية العدوان - أسمى آيات البطولة، فقد حققوا إصابات كثيرة في جنود العدو، ودمروا آلياته ودباباته وناقلات جنده وجرافاته بوفرة. فزرعوا شتول النصر الإلهي بصدق وعدهم وإخلاصهم وبأسهم الذي لا يلين. قصص البطولة والإقدام هذه يتناقلها المجاهدون الذين شهدوا المواجهات، وأجملها قصة "الدحنون" التي نسمعها على لسان أحد المجاهدين: "الدحنون هو لقب أحد المقاومين الذين كانت لهم مشاركة عملية في التصدي للتقدم الصهيوني عند مشروع الطيبة. عند حصول المواجهة الأولى مع الجنود المتسللين، هرب العشرات منهم، واختبأوا في أحد المنازل، فلاحقهم المقاومون، وعمدوا إلى استهداف المنزل محققين فيه إصابات مباشرة. ثم قام الدحنون بالتقدم إلى داخل المنزل والتحم فيه مع الجنود الذين كبّل أيديهم الخوف والرعب، فبدأ بتصفيتهم من دون أن يستطيعوا القضاء عليه. وبعد إنهاء مهمته بنجاح، انسحب إلى منزل قريب بعدما أصيب في رجله، فغاب عن الوعي لفترة، وبقي في مكانه عدة أيام، حاولنا خلالها سحبه فلم نستطع بسبب شدة القصف، فكنا نصل إليه ونمده بالطعام والشراب. وخلال وجوده في ذلك المنزل، كان يقبع في الطابق الأرضي منه، فحصل أن قام جنود العدو بالدخول والاختباء في نفس المنزل، متمركزين في الطابق العلوي منه، من دون أن يحسوا بوجوده. وعند انسحابهم تمكنّا من سحبه، وقد قام الشهيد مصطفى أمهز (دماء) بإسعافه ومداواته، وهو الذي أمضى طوال فترة الحرب معنا في إنقاذ الجرحى وإسعافهم".

* يد العناية واللطف:
يتحدث مجاهد آخر عن الشعور باللطف الإلهي الذي رافقهم طوال فترة الحرب والمواجهات، والذي أنقذهم مرات عديدة من غارات جوية محققة على منازل يكونون قد غادروها للتو.! ويروي كيف كانوا جالسين في منزل غير مسقوف، فسمعوا دوي قذيفة تتجه إليهم، ثم ما لبثوا أن رأوا شرارتها تمر من فوق رؤوسهم، لتقع في الجوار دون أن تؤذي أحداً منهم. ويحكي عن الروحية التي شهدها المقاومون خلال فترة الحرب: "كانت الحرب قاسية جداً، لكن بالرغم من ذلك، كنا نشعر بأجواء من الهدوء والتسليم والتوكل على الله، واليقين بالنصر على أعدائه. وخلال الحرب، سادت أجواء عبادية رائعة حتى أن بعض الأخوة كان يصوم".

* الصهاينة الفئران:
أما عن معنويات الجنود الصهاينة، فيقول مجاهد آخر: "كانوا كالفئران والجرذان يختبئون في البيوت بلا حركة من شدة الخوف. يُغلقون عليهم النوافذ والأبواب. وقد اكشتفنا هذا الأمر بوضوح بعد انتهاء الحرب، حيث تبين وجودهم في منازل عديدة كانوا يختبئون فيها من دون الجرأة على المواجهة والتقدم. وهناك قصة حصلت معنا في يوم وقف إطلاق النار. فبعد تقهقهر الجنود وانسحابهم المذل، قمنا بجولة تفقدية على المنازل المحيطة، وإذ بنا نفاجأ لدى وصولنا إلى أحد المنازل بأصوات عبرية تصدر من داخله. قمت بمحاولة لفتح الباب، ففوجئنا بوقوفهم خلفه محاولين صد الباب بشدة لعدم السماح لنا بالدخول وتصفيتهم. لم يكن لدينا أمر بإطلاق النار حينها فتركناهم وذهبنا".

* أمراء الجنة في الطيبة:
الشهداء الذين استشهدوا في بلدة الطيبة هم:

الشهيد فادي كاظم، الشهيد محمد صولي، الشهيد محمد أحمد يحيى، الشهيد علي صولي (صافي)، الشهيد محمد حمادة (من بلدة كفرملكي). وقدّمت الطيبة شهداء قضوا في المواجهات على محاور أخرى من محاور البطولة والفداء هم: الشهيد محمود محمد قعيق (استشهد في عيتا الشعب)، الشهيد سامر نجم (بطل مواجهات مارون الراس)، الشهيد حسن عباس ( استشهد في صور).

* النصر المعجزة:
لقد صنع رجال الله في الطيبة المعجزات: "معجزات بالمقاييس العسكرية المادية لكن بمقاييس رجال الله هي أمر طبيعي لأن هذا هو معنى الإيمان والإرادة والصدق"(2). في الطيبة أيضاً كان حجم النصر مدوياً بحجم هزيمة العدو المجلجلة.
 


(1) هو الشهيد فادي كاظم.
(2) من كلام لسماحة السيد حسن نصر الله في اليوم الثاني والعشرين من حرب تموز.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع