فاطمة المبدّر شومر
يبهرني رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يسير في شوارع
المدينة المنورة وكأنه واحد من رجالها العاديين. وكم أحن إلى زمانه حين أقرأ أنه
كان لا تفارقه الكلمة الطيبة. كان يجامل، يساير، ويقبّل الأطفال، دون أن يعتبر ذلك
كله منقصة من مكانته الرساليّة العظيمة.
* مكارم الأخلاق:
وقد قال الباري عز وجل فيه:
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
(آل عمران: 159)، في إشارة إلى أنه لم يكن إلا ذا قلب طيب، طاهر، ويعرف
تماماً كيف يعامل الناس بأخلاق تسمو على كل خلق رفيع.. ولم يكن يرى في ذلك تنازلاً
منه لأناس لا يستحقون، ولا خدشاً لكبريائه، فقط لأنه كان يعرف معنى الكبرياء
الحقيقي، وقد كان يملكه، وكان يعلم أيضاً أن الإسلام يسمو في القلوب، وأن القلوب
هذه لا تتوحد إلا بالكلمة الطيبة..
هذه الكلمة التي بتنا لا نسمعها في هذا الزمان العجيب..!
هناك أناس ليسوا قلة في المجتمع المسلم يتأسون بهذا الرسول الكريم، الذي تعلو
مكانته على مكانة البشرية جمعاء، بما أتى به من دين حنيف، فيقيمون الصلاة، ويؤتون
الزكاة، يصومون، ويسارعون إلى الحج إلى بيت الله الحرام كلما استطاعوا إلى ذلك
سبيلاً. ولكن كثيرين منهم غفلوا أو أغفلتهم الدنيا عن التأسي بأهم ما جاء به النبي
المرسل من عند الله تعالى، ألا وهو الأخلاق الحسنة. أوليس هو القائل: إنما بعثت
لأتمم مكارم الأخلاق(1)؟!
* هي الكمال بعينه:
كلنا سمع هذه الكلمات، وكلنا مرت عليه مراراً في حياته، ولكن، كم واحداً منا فكر
فيها ملياً، وتساءل إن كانت هذه الأخلاق التي بعث الرسول صلى الله عليه وآله
ليتممها قد أتممناها في شخصياتنا، وجعلناها جزءاً لا يتجزأ من باقي أعمالنا وخطانا
نحو الكمال؟! وكم واحداً منا عرف أن الأخلاق السامية هي الكمال بعينه، وأن كل
الأعمال الباقية ما هي إلا لتربية النفس للوصول نحو سمو الخلق؟! وإن كنا نعرف
ذلك كله، فلماذا تركناه وراء ظهورنا، ولم نتأس بالرسول صلى الله عليه وآله إلا ببعض
الدين وتركنا منه السهل الممتنع.. الكلمة الطيبة؟
* لبناء علاقات مميزة:
في كتب متفرقة لعلمائنا العظام نجد العديد من النصائح لكسب الأصدقاء وزيادة المحبة
بين الإخوان، فنجد أن أحد أهم العوامل هي المجاملات، والالتفات إلى الشيء الإيجابي
عند الطرف الآخر، وإن كان مملوءاً بالعيوب، وغض النظر عن السلبيات. هذه النظريات
يمكنها أيضاً أن تدعم بأبحاث علمية في علم النفس. تقول الأبحاث إن من أراد أن يكسب
حالة مريضة نفسياً ومليئة بالعقد وتكره الحياة، فعليه أن يزيد ثقتها ويحببها إلى
نفسها، ويوجد لها طعماً جميلاً فيما حولها. وغالباً ما تكون بداية هذه الخطوات هي
كلمة والتفاتة جميلة وذكر شيء مميز في هذه الحالة، تجعلها تركن لصوت الخير، وربما
غيّرت مجرى حياتها. البحوث في علم النفس تكاد تكون بالمئات، وكلها تصب في قول
الكلام الجميل، وغض النظر عن كل عيوب الشخص الذي أمامنا. هذا يذكرني بعض
الشيء بالرواية القائلة أن "نجد أعذاراً لأخينا المؤمن حتى نكاد نخترع أعذاراً" غير
منطقية ربما. فنحن بهذه الطريقة نفتش عن الشيء الإيجابي وإن كان خفياً لدرجة توقعنا
بعدم وجوده أصلاً. كل هذا يصب في بناء علاقات مميزة بين الناس وتليين قلوبهم، ويخلق
ارتياحاً نفسياً عند من يمتدحه الناس على تفصيل في حياته أو شخصيته، وعند من يرى
أنه استطاع أن يرسم ابتسامة في وجه أخيه، ورأى لمعان فرح في عينيه.
* الكلمة المؤذية محبطة:
هذا ما يقوله العلماء العظام، وتشدد عليه البحوث في علم النفس، وتذكره الروايات
مئات المرات. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا نقول نحن في المجتمع؟ وكيف نطبق
هذه الأقوال والنصائح؟ كثير من الناس كما ذكر آنفاً لا يتأسون بالرسول صلى
الله عليه وآله في هذا الزمان، ويعتبرون الكلمة الطيبة منقصة لهم بشكل من الأشكال،
فيتوخون الحذر من المدح والمجاملات التي يحتاج إليها المجتمع ليتماسك أكثر،
ويسارعون إلى النقد غير البناء والتعليقات السامة كلما سنحت الفرصة، وإن بشكل
المزاح. ولكن ما يؤسف له هو أن الكلمة المؤذية تحبط الإنسان وإن كانت بداعي المزاح
فقط. ترى، هل يعرف الناس أن أسهل طريق لإحباط وكسر عزيمة شخص هو عبر كلمة في
كثير من الأحيان؟ فكل منا يحتاج لمن يرى فيه خصاله الحسنة، ويلتفت إلى الأشياء التي
يتميز بها، فيبدع أكثر. وإلا، فإنه كلما سمع شيئاً عن فشله أو عن سلبياته، فإنه لن
يرى في نفسه غيرها. فالطفل الذي يشجعه الأهل على بعض "الخربشات" غير
المتناسقة، ويصرون على أنه مبدع ويمتدحونه أمام الغير، ليس بعيداً أن يصبح رساماً
حين يكبر. وربما صادفنا إنساناً لم يمسك القلم ليكتب شعراً في حياته، وفي مرة أحب
أن يجرب، وحين لاقى تشجيعاً ممن حوله صار يكتب ويتطور أكثر وأكثر. وكم منا من
عاد إلى بيته يوماً يشعر بكثير من الزهو والفرحة بسبب كلمة طيبة قيلت له؟
* الكلمة الطيبة:
الكلمة الطيبة تدفع إلى الأمام، وتصنع العظماء، فلماذا نبخل بها، ونحسب لقولها ألف
حساب؟ وفي بعض الأحيان، لا نجهر بها وإن كانت موجودة في قلبنا. إذاً، نحن لسنا
بحاجة لأن نفتش عن الخير، فهو موجود دائماً، علينا فقط أن نقبل بوجوده عند غيرنا،
ونظهره ونحكي عنه. وأحياناً، يكون ذلك في تفاصيل جد صغيرة، ولكنها تصنع الكثير في
القلوب. فأنا إن امتدحت وردة في بيت جاري، لن أخسر شيئاً، ولن يأخذ ذلك من
طاقتي أبداً، ولكنني بذلك ربما رسمت الفرحة في قلبه، وجعلته يقف أمام تلك الوردة كل
يوم فرحاً بها. ولو نظرت في عيني صديقي وقلت له إني معجب جداً بحكمته وعقله،
أفلا أكون قد شجعته على شيء نريده في هذا المجتمع؟ وهل أكون بذلك قد خسرت
شيئاً من نفسي وكرامتي؟ أم هل أكون قد زدت في قلب الطرف الآخر تكبراً علي؟
ولكني في المقابل، لو مررت من أمام وردة جاري وقلت له إن وروده ذابلة، فلن أكون قد
فعلت شيئاً غير أنني أشعرته بالحزن والإحراج. وربما استقال من زراعة الورود لشعوره
بفشله في ذلك.
من الأسباب التي تمنعنا من قول الكلمة الطيبة لمن حولنا:
- الحسد وحبنا لأن نكون نحن ولا أحد غيرنا محط إعجاب الآخرين.
- الخوف من تكبر الطرف الآخر علينا إن أشعرناه بأهميته.
- الشعور بالنقص. ومثال على ذلك أننا إن قلنا لزميلنا إنه متميز في العمل، قد يعني
ذلك أننا نؤكد على أننا أقل منه، وهذا ما نحاول اجتناب الوقوع فيه.
- عدم تعود النفس على امتداح الغير والخجل من قول الكلام الجميل.
من الأسباب التي يجب أن تشجعنا على قول الكلمة الطيبة:
- المجتمع الذي تسود فيه روح المحبة والكلام الجميل مجتمع فيه خير.
- الكلام الطيب، وإن في تفاصيل سطحية، يبعث الراحة ويشجع الناس إلى الأمام.
- الشخص الذي يعرفه الناس بلسانه الدافئ وطيبة قلبه سيبادلونه الشيء ذاته، وهو بذلك
سيرتاح ويريح غيره.
- الكلمة الطيبة تجعل الطرف الآخر يتغاضى عن عيوبك، ويتخلى عن عيوبه.
- تشد أواصر المجتمع وتقوي بنيته وتزيد من المحبة والأخوة بين الأفراد.
- فيها راحة للعبد ومرضاة للرب.
بعد كل هذا، كلمة أخيرة.
فلنتحدّ الشيطان القابع داخل نفس كل منا، ونتوجه إلى إخواننا بكل صدق، ونبحث لهم عن
أشياء إيجابية فيهم. ولنعلم أن مدحنا لمن حولنا ما هو إلا أسمى أنواع رقينا وبلوغنا
مراحل متقدمة في تأسينا بحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وآله. ولنعلم أن لا فائدة
من إيمان لا يزيد أفراد المجتمع ترابطاً ومحبة. وأن المفصل بين الحرب والسلم كان
منذ الأزل: كلمة. والمفصل بين الإحباط والرقي، أيضاً كلمة. ولا تتم الفرحة إلا حين
ندخل في قاموسنا أبجديات جديدة بدل تلك التي ملأته، عسانا بذلك نكون ممن يباهي الله
بهم الملائكة ويسر بهم الرسول الأمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
(1) مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، ص8.