الشيخ إبراهيم السباعي
ينقسم كلام الناس إلى قسمين: طيّب، وخبيث، وحده الكلام الطّيب مفتاح لقلوب أسماع القلوب، وهو يجمع ولا يفرق ويحبّب ولا يبغّض، ويقرّب ولا يبعّد، ويؤالف ولا ينّفر. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق: 18). فالإنسان مسؤول دوماً عن أقواله، وتصرفاته وعن سائر أفعاله.
* الأنبياء عليهم السلام والكلمة الطيبة
الكلمة الطيبة طريق الأنبياء عليهم السلام ومسلكهم إلى قلوب الناس، لذا نجدهم قد نجحوا ووصلوا وأثّروا تأثيراً سحرياً عجيباً في مجتمعاتهم. فهذا نبي الله موسى عليه السلام بعد أن حُمّل الرسالة من ربّ العالمين، علمّه سبحانه وتعالى وأخاه كيفية التعاطي التبليغي مع فرعون ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (طه: 44)؛ لأنّ اللين في الأسلوب يعطي نتائج صحيحة وسليمة، حتى مع فرعون الجبّار المتغطرس. وهذا روح الله عيسى عليه السلام آمن به عدد كبير من الناس، مع أنّه لم يكن لديه مال يعطيه ولا سيف يسلّطه على رقابهم. وحتى بعد أن رفعه الله تعالى إليه استطاع التأثير بالناس من خلال ما سمعوا من كلماته، ومما تناقلته ألسنة طلابه وتلامذته من الكلمة الطيبة. وقد استطاع النبي محمد صلى الله عليه وآله النجاح في تبليغ رسالات ربّه من خلال ما كان يتّبعه من سبل وطرق فقد كان لتربية الله تعالى وتأديبه له صلى الله عليه وآله دوراً مهماً جداً في تفعيل المهمة التي قد بعث لها.
* مفاتيح النجاح
لا بد من الالتفات إلى أمور ثلاثة تكفل النجاح في أي مهمة:
أولاً: الأسلوب والطريقة
ثانياً: القانون والدستور الذي يأتي به
ثالثاً: التوقيت المناسب لذلك.
وسوف نتحدث عن الأسلوب والطريقة لارتباطهما بالموضوع:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "أدّبني ربّي فأحسن تأديبي" (1). إذ يتطلّب إصلاح المجتمعات إتقاناً خاصاً وتفاعلاً من قبل الداعي مع ما يقول ويفعل؛ فعندما انطلق النبي محمد صلى الله عليه وآله في حياته الاجتماعية، وجد فيه الناس الصدق والأمانة حتى عُرِف بالصادق الأمين، وكان متزيّناً بمكارم الأخلاق. لذا، استحق أن يشارك في أمور لم يكن لأي شاب بعمره أن يحلم بالمشاركة فيها، من حيث السن والمكانة، حيث شارك في تأسيس حلف الفضول الذي كان يعتز به جداً، والذي كان من أهدافه إرجاع الحق المغتصب إلى أهله. وشارك أيضاً في حل المشكلة الكبيرة التي كادت أن تؤدي إلى مجزرة في مكة المكرمة، حيث اختلفت القبائل في من يضع الحجر الأسود فكان له الفضل في جمعهم وتوافقهم على ذلك. كلنا سمعنا وقرأنا قصة النبي صلى الله عليه وآله والجار اليهودي الذي كان يؤذيه ولا ينفك عن ذلك تارةً بالكلام السيئ وأخرى برمي الأوساخ أمام بيت النبي صلى الله عليه وآله وقد حاول أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ضربه وطرده وحتى قتله، ولكن كان كلام النبي صلى الله عليه وآله واحداً: ما لكم وللرجل؟ أنا خصمه وأنا أعالجه. بقي النبي صلى الله عليه وآله يعالج الرجل بالكلام الطيب والصبر الجميل حتى آمن الرجل بدين النبي صلى الله عليه وآله وبالإسلام.
* جواز مرور إلى كل القلوب
انطلق النبي صلى الله عليه وآله من خلال الكلمة الطيبة التي شبّهت في القرآن بأنها كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء. شُبِّهَت الكلمة بالشجرة ولم يتم تشبيهها بالوردة أو الزهرة مع أنهما أجمل وأطيب وأزكى رائحة لكن الفرق واضح حيث للوردة والزهرة رائحة طيبة زكية وشكل أجمل إلا أن الشجرة أمتن وأقوى وفائدتها أكثر وأدوم. ولكن الكلمة الطيبة وحدها لا تكفي، بل تحتاج إلى صدق في القول وأمانة في النقل، وأسلوب ناجح وكلمات منمقة واضحة مبينة. فالنبي صلى الله عليه وآله لم يُسمع منه طيلة حياته الشريفة كلمة تسيء أو تؤذي أحداً ممن كان يحيط به من أصحابه أو أحبابه وحتى أعدائه، حتى أنه كان يذم صاحب الخلق السيئ والكلام البذيء. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "إن الله حرّم الجنة على كل فحّاش بذيء قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه"(2).
وقد انطلق الرسول صلى الله عليه وآله بأجمل وأفضل الكلمات، فكان يغير أسماء أصحابه ممن يرى في اسمه ما يسيء لصاحبه فكان يسأل من يسلم: ما اسمك، فإن قال: حرب، كان يرد عليه، بل اسمك سلام، وإن قال جبل، كان يقول له، بل سهل، وذلك بهدف إحياء المجتمع فيبدأ بالكلمة الطيبة. وعلى صعيد الأسلوب قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (النحل: 125) يعني ذلك بالكلمة الطيبة والنافعة مع التسلّح بالصبر والمحبة وإظهار الاحترام للآخرين. وهذا ما كان يحصل حيث كان المسلم بعد لقائه بالنبي صلى الله عليه وآله يذهب ويجاهد ويضحّي بنفسه وماله وولده، والسبب عشقه وحبه لمحمد صلى الله عليه وآله ولله عزّ وجلّ وتصديقه بما آمن به لأن ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب.
الأئمة عليهم السلام والكلام الطيب
إنّهم تلاميذ مدرسة محمد صلى الله عليه وآله الأوائل الذين ترجموا وتخرجوا وأعطوا وهم أوفياء للرسالة؛ فأمير المؤمنين علي عليه السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وعلى الرغم من الأحداث التي وقعت لم يتوانَ عن بيان الحقّ بما أمكنه من أسلوب يعتمد الرهان والحجة ولسان حاله: وما على الرسول إلا البلاغ المبين. كذلك تعامل الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية بعد الصلح بما يمليه عليه إسلامه وتربيته وتأديبه، وقد ردّ على من أنكر ذلك بقوله عليه السلام: "إن العهد كان مسؤولاً" (3). وكذا الإمام الحسين عليه السلام عندما دُعِي ليخرج على معاوية، كان يرد عليهم بيننا وبينه عهد وميثاق، ولا يجوز الغدر.
* الكلمة الطيبة دائمة العطاء
الكلمة الطيبة هي حكمة تنتقل من زمن إلى زمن ومن مكان إلى آخر ومن شخص إلى شخص. وإنك لترى ذلك بوضوح في حياة الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام حيث انطلق بهموم الإمامة وليس معه أحد ولكنه استطاع أن يعيد الناس الى ولاية أهل البيت عليه السلام والسبب أسلوب الإمام والكلمة الطيبة والفعل الذي كان يقوم به.
* التبليغ الصامت
وهذه تجربة الإمام الصادق عليه السلام الحافلة بتعليم النّاس ونشر علوم أهل البيت عليهم السلام بينهم وبلا استثناء، فتجد طلابه منهم الموالي له والمناوئ، والمؤمن بدينه والكافر به، والعربي والعجمي، والأبيض والأسود وغيرهم. كم هو جميل أن تنظر إلى جموع الناس وهي مجتمعة في المسجد النبوي الشريف وتتزاحم فيه لتجد لنفسها مكاناً وموطئ قدم لتنهل من علم الإمام الصادق عليه السلام. وهذا أبو حنيفة النعمان كان يقول دائماً: "لولا السنتان لهلك النعمان"، وكان يواظب على حضور دروس الإمام، بل نرى الإمام يجالس الجميع حتى الزنادقة والملاحدة وذلك لأن رجال الله تعالى والأئمة عليه السلام يعمّ فضلهم كل الناس. كان الإمام الصادق عليه السلام يردد ويوصي بعض شيعته بقوله: "كونوا لنا دعاة صامتين" (4)، وقال عليه السلام في حديث آخر: "كونوا لنا دعاة بغير ألسنتكم" (5).
* .. والكلام الطيب
في عصر الإمام الكاظم عليه السلام كان يعيش في بغداد رجل معروف يقال له بشر. وكان ممن يشار إليه بالبنان. وحدث يوماً أن مرّ الإمام الكاظم عليه السلام من أمام بيت بشر، وكانت أصوات اللهو والطرب تملأ المكان وصادف أن فتحت جارية باب الدار لإلقاء بعض الفضلات، وحين رمت بها في الطريق سألها الإمام عليه السلام قائلاً: يا جارية، هل صاحب هذه الدار حرٌّ أم عبد؟ فأجابته الجارية وهي مستغربة سؤاله "سيدي هذا بشر وهو رجل معروف بين الناس وهو حرّ". فقال الإمام عليه السلام: "صدقت لو كان عبداً لخاف من مولاه". قال الإمام هذه الكلمات وانصرف، فلما عادت الجارية إلى الدار وكان بشر جالساً إلى مائدة الخمر، سألها عما أبطأها، فأجابت بأن رجلاً سألها سؤالاً غريباً، وهو: هل سيد الدار هو حرٌّ أم عبد؟ فقال لها بشر: ما شكله وما مواصفات الرجل، فأجابته بصفات الرجل. حينها عرف بشر أنه الإمام عليه السلام فاهتز اهتزازاً عنيفاً أيقظه من غفلته، وخرج يعدو خلف الإمام، حتى أنه نسي أن ينتعل حذاءه. وكان في الطريق يحدث نفسه بأن هذا الرجل هو الإمام موسى الكاظم عليه السلام حتماً، ولم يدرك الإمام إلا في السوق، فمرّغ بشر خديه على الأرض أمام الإمام عليه السلام، وقال: بل عبدٌ! ثم هام على وجهه حافياً حاسراً حتى عرف بالحفّاء، فقيل له: لم لا تلبس نعلاً؟ قال: لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حاف فلا أزول عن هذه الحالة حتى الممات(6). استطاع النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، بدءاً من أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى آخر معصوم، دخول قلوب وعقول وأفئدة الناس بالكلمة الطيبة، والعمل الطيب، والحكمة والموعظة الحسنة وإظهار القيم والأخلاق الإسلامية الصحيحة والسبب هو صدق ما حملوا وصدق ما بلغوا والإيمان بما عملوا والتضحية بكل شيء في سبيل هذا الدين وفي سبيل الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) بحار الأنوار، ج 16، ص 210.
(2) الكافي، الكليني، ج 2، ص 323.
(3) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 14.
(4) كتاب التوابين، عبد الله بن قدامة، ص 211 بتصرف.
(5) الأنوار البهية للقمي، ص 295.
(6) كتاب التوابين، م.س، ص 211.