د. حسن سلهب(*)
كنا في مقالة سابقة قد تعرضنا لتطور الاهتمام بالمواصفات المطلوبة للمعلم، وتوقفنا عند بروز المواصفات الشخصية كشروط متقدمة على المواصفات العلمية والمهنية. وسنحاول في هذه المقالة التوسع بعض الشيء في مجال شخصية المعلم والمواصفات المطلوبة. بداية، لا يمكن فصل أي جانب من الجوانب في شخصية المعلم: فالمعلم الخبير، والمعلم العالم، والمعلم الإنسان، كلها تعبر عن جوهر متوحد في العلم. لكن، بالإمكان التدقيق أكثر بالسمات التي لها جذور في طبيعة المعلم وفطرته الأساسية بصورة أكثر من غيرها. هذه السمات هي ما سنصطلح على تسميتها بالمقومات الشخصية، مع الاحتفاظ بمبدأ أن كل السمات عرضة للتأثير والتأثر، قلَّ ذلك أو كثر. وإذا دخلنا في موضوع السمات الشخصية، فنحن أمام ثلاثة أنواع غير منفصلة، وهي السمات الجسدية أو المادية، ومن ثم السمات النفسية أو الروحية، وأخيراً السمات الذهنية أو الإدراكية.
* أولاً: السمات الجسدية أو المادية
وهي كل ما يتمتع به الإنسان في مظهره الخارجي وبنيته الجسدية الداخلية. فالمعلم يظهر دائماً بطوله وعرضه، وبقوته وضعفه، بحركته وسكونه، بشكله ولونه. ولا يمكن تجاوز هذه الأمور في مجال التقرير بقبوله أو عدمه في التربية والتعليم. فالأشكال بوابة دائمة للتواصل، والنماذج الاستثنائية تعيق نسبياً عمليات التعلُّم، لا سيما إذا ما كانت مفرطة، أو لم تحمل ما يوازنها أو يخفيها في مجالي النفس والذهن. لسنا في صدد انتخاب الأجمل والأقوى، لكن من الضروري الاهتمام بتأمين الشروط التي توفر الأقرب والأنسب لخيال التلامذة. ومن غير الحكمة قبول السمات الجسدية كيفما كانت، بحجة القناعة بخلق الله، فهذا أمرٌ يُبحث في محورٍ خاص وفي أوضاع غير طبيعية، ذلك أن كثيراً من الشروط الجسدية تدخل في إطار تحقيق المهمة المطلوبة. فقوة النشاط واللياقة البدنية على سبيل المثال شرطان ضروريان في إشاعة الحيوية، فضلاً عن دورهما في إنجاز تواصل فائق التعبير داخل الحجرة الصفية. وتتضاعف أهمية ذلك كلما اقتربنا من صفوف الروضة، حيث يتطلب الموقف عمليات متواصلة من التمثيل والتعبير الجسدي لا تبقي مجالاً للجمود والهدوء.
من هنا، فإن مفردات جديدة من قبيل اللياقة والرشاقة، البشاشة والوسامة، غدت معايير مؤثرة في تعيين المعلمين وقبولهم. ولا نبالغ إذا قلنا إن مستوى العافية الجسدية للمعلم يحدد الكثير من مستوى عافية وسلامة أدائه. والمعلم الذي لا يقوى على الوقوف على قدميه طيلة حصة دراسية كاملة، لن يكون بمقدوره أن يلعب دوراً كاملاً في مهمته.
* ثانياً: السمات النفسية والروحية
وهي كل ما يتمتع به الإنسان من مشاعر ونوازع لها تأثير ملحوظ في سلوكه وأدائه. في المراحل السابقة حيث كان المطلوب من المعلم تقديم علمه، من دون أية عناية جوهرية في الأسلوب والطريقة، كانت عملية التعليم لا تتصل فعلياً بالبنية النفسية للمعلم. فإذا ما صودف أن المعلم غضوب، فإن بإمكانه أن يفسِّر ذلك من باب الجدية في العلم، وعدم تحمل أية مواربة فيه. ولا ضرورة للإيجابية الغالبة، فإنها بابٌ واسعٌ من أبواب الفوضى وتفاقم الشغب. لكن الواقع المنشود اختلف كلياً، حيث إن القوة التي كانت مطلوبة عند المعلم لم تعد موجودة في تقطيب الحاجبين، وشد الشفتين، وحصر الدماء في الوجه أو جحوظ العينين، بل في الحماسة الحاسمة لتحقيق الأهداف المرسومة، والاستعداد المفتوح لكل الشروط الكفيلة بإنجاز الدور على أكمل وجه ممكن.
إن السمات المطلوبة في المعلم الجديد تتصل بقوة الطاقة الروحية التي تتجلى في عزمه وطموحه، ومستوى شغفه وانهماكه بمهمته. إننا عندما نريد تعيين معلم جديد، ملزمون بالتدقيق ملياً في إيقاع كلماته، وبُعد نظراته، واتساع خياله. ومن الصعب جداً تكليف معلم جديد يفتقر إلى القدرة على صناعة أحلامه أو أحلام تلامذته، أو يعجز عن تحريك دورة دموية جديدة في عروقه أو عروق تلامذته. ثم إن المعلم المطلوب هو من يتمتع بصحة نفسية عالية تمكنه من خوض تجربته الشاقة، بعيداً عن التوتر المرضي أو الإحباط السريع.
إن ما يتوقعه التلامذة من المعلم يتصل بكونه مصدراً غزيراً للآمال، ونبعاً متدفقاً للحياة. في عينيه تُشرق شمس النهار، وفي صدى صوته تجتمع كل الأنغام الإنسانية العذبة. لا زمان للفتور ولا مكان للجمود. فالجذوة لا تزال مشتعلة ومتوقدة، والعمر لا يزيدها إلا نقاءً وتألقاً. إذاً، علينا أن نتفحص حرارة هذه الجذوة وقوة اشتعالها وتوقدها، ونظافة النور الذي يصدر عنها. لا نريدها حارقة لمن حولها، كما لا نريدها مدمرة لصاحبها. قد يبدو في ما أقول نوع من المثالية أو المبالغة، وهو في كل الأحوال أمرٌ عزيز، لكن من الصعب تحقيق الأهداف التعلمية في الصف بغير الكثير من ذلك.
* ثالثاً: السمات الذهنية والإدراكية
وهي كل ما يتمتع به الإنسان من قدرات ومهارات تشكل مستوى فطنته وذكائه. إن ما تحدثنا عنه بعبارة اللياقة في الجسم، والتوقد في النفس، سنشير إليه بعبارة الخصوبة في الذهن. نعم، لم يعد المعلم كتاباً ناطقاً، ولا شريطاً مصوَّراً، ولا رسماً مشكّلاً، إنه أرض تتفاعل مع كل جديد، وتتسع لكل وارد، وتتعايش مع كل مختلف. فالمعلومات لديه في تجدُّد دائم، والقناعات متغيرة بالمنطق والواقع، والتجربة نبعٌ من الحكمة لا ينضب. لا يمكن للمعلم أن يقود تلامذته على مر الزمن بالطريقة نفسها، وبالمعلومات أو القناعات نفسها، فمفردات من قبيل المرونة الذهنية، وسرعة البديهة، كلها غدت مكونات أساسية للسمات الذهنية المرجوة.
لم يعد بإمكان المعلم المحدود في تفكيره، والمحصور في قناعاته، والمكبَّل في خياراته أن ينجز دوره. وكل ذلك يستلزم عمليات ذهنية شخصية ترقى إلى مستوى القدرة على توسيع المجالات، وتأصيل القناعات، واكتشاف الخيارات. ربما كان في ذلك بعض التضييق على الذين لم تتوافر فيهم استعدادات هذا النوع من الأذهان. قد يكون ذلك صحيحاً، لكن الأقوى حجة في هذا المجال أن شروط تربية الأجيال تستحق نخبة بني البشر. كذلك، فإن السمات المطلوبة في المعلم الجديد تتصل بقدرته على صوغ العبارة الجديدة، والصورة الجديدة، والطريقة الجديدة. فلا يمكن له أن يبقى أسيراً لتجارب أسلافه، لأن تلامذته ملزمون بأن يكونوا نماذج جديدة ومختلفة عن أسلافهم وسابقيهم. وهذا كله يتطلب قدرة ملحوظة في التصرف بالحرف والرقم والشكل.
أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أننا في ما تقدم قد رسمنا بعضاً من السمات الشخصية للمعلم الجديد، وهي سمات طبيعية لها علاقة بتكوينه، وإذ نعتبرها شروطاً أكيدة، إلا أننا لا نبتغي من وراء ذلك إلا تسليط الضوء، وتوسيع الأفق، والعبرة أخيراً في نسبة توافر هذه الشروط، وبالتالي حاجة المدارس التي تتحكم بالنهاية في القرار.
(*) مدير الإعداد والإشراف في مدارس الإمداد.