مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

معركة بدر: الظروف والنتائج‏

الشيخ محمد يونس‏

 




شكلت معركة بدر الكبرى التي خاضها المسلمون في السنة الثانية للهجرة، محطة أساسية في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله، بل منعطفاً مهماً في التاريخ الإسلامي بشكل عام، ذلك لطبيعة الظروف السياسية المحيطة بتلك المرحلة، إضافة للأبعاد العسكرية وما تمخضت عنه نتائج ودلالات، شكلت بمجموعها نقطة تحول جديرة بالقراءة والدراسة والتأمل. حتى أن الذين شاركوا في هذه المعركة، عُرفوا فيما بعد بالبدريين، وكان لكلمتهم ورأيهم تأثير خاص في اتخاذ أي قرار سياسي أو عسكري إيجاباً أو سلباً، فكانوا يقولون لتأييد رأي ما، وافقنا على ذلك البدريون، أو خالف البدريون هذا الرأي.

* الظروف السياسية:
فالواقع، أنه لم يكن قد مضى على تشكيل الرسول صلى الله عليه وآله للدولة الإسلامية المباركة في المدينة إلا حوالي السنة، وبالتالي فإن هذه الدولة كانت حديثة البناء، لم يكتمل بناء مؤسساتها وأجهزتها الأمنية والعسكرية بشكل كامل، فضلاً عن مجتمع المدينة المتنوع بتركيبته والمتعدد بقبائله وعشائره المتنازعة، كما أنها تجربة جديدة لأهل المدينة الذين اختاروا الإسلام طوعاً، وبايعوا الرسول سلماً، وشكلوا دولتهم الجديدة بمنتهى الرضا والتسليم والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله، في حركة من أندر الحركات التغييرية الحضارية في التاريخ الإنساني، الذي لطالما شُكلت فيه الدول والممالك من خلال إراقة الدماء وهتك الأعراض واستباحة الأموال والممتلكات. إلا أنه ما كاد يتمّ للمسلمين استقرارهم الجديد، حتى بدأوا يعدون عدتهم العسكرية للانتقام من أعداء الدين الإسلامي، الذين عانوا على أيديهم شتى صنوف القتل والتعذيب والتنكيل والاضطهاد والتشريد خلال ثلاثة عشر عاماً، وكانوا ينتظرون اللحظة المناسبة ليأتي الأمر الإلهي بالخروج للقتال.

وفي اللحظة السياسية المناسبة، جاء الأمر الإلهي بمظلوميتهم وإمكانية الخروج العسكري ضد قريش، وذلك من خلال قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير (الحج: 39)، وليبدأ بذلك عهد جديد ومرحلة جديدة من الصراع مع أعداء الإسلام. فخرج النبي صلى الله عليه وآله ليعترض قافلة تجارية بقيادة أبي سفيان كانت متجهة إلى مكة، وكانت الفرصة مؤاتية لمصادرة أموال هذه القافلة بدل أملاكهم وأموالهم التي صادرتها قريش في مكة، وبالتالي، حبس هذه الأموال ليتم مقايضتها مع قريش، أو التصرف بها في حال لم توافق قريش على المقايضة(1)، وقد عبّر النبي عن ذلك بقوله لأصحابه: هذا عير قريش (أي قافلتهم) فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها(2)، إلا أن أبا سفيان علم بتحرك النبي صلى الله عليه وآله، فاستنجد قومه الذين أدركوه في ألف مقاتل، ليلتقي الجيشان في منطقة بدر على بعد 160 كم من المدينة في التاسع من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة.

* الظروف العسكرية:
وإذا كان خروج النبي صلى الله عليه وآله لاعتراض قافلة والاستيلاء على أموالها، فإن هذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله لم يجهز نفسه لمعركة مع قريش ولم يعد لها العدة اللازمة، ولذلك، عندما أدركه نبأ خروج قريش بكل عتادها لنجدة أبي سفيان وحماية أمواله، استشار النبي صلى الله عليه وآله أصحابه بين المضي قدماً ومواجهة قريش، وبين الرجوع إلى المدينة، وقد أشار بعضهم بعدم المواجهة، إلا أن أكثر الأصحاب لا سيما سعد بن معاذ الأنصاري والمقداد بن عمرو وغيرهما من القادة البارزين أشاروا على النبي صلى الله عليه وآله بالمضي قدماً لمواجهة قريش وكسر شوكتها والثأر من جلاوزتها، وهكذا، اتخذ النبي صلى الله عليه وآله قراره بالمواجهة وأمر جيشه بالمسير على بركة الله. وكذلك، فإنّ قريشاً بعد علمها بفرار أبي سفيان بقافلته بعيداً عن مكمن النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه، حاول البعض أن يغير من رأيهم في الخروج، إلا أنّ أبا جهل رأى هذا الخروج فرصة لتثبيت سطوة قريش في المنطقة ومحاولة اجتثاث دولة النبي صلى الله عليه وآله الجديدة التي كانت تهدد قريشاً في وجودها وكيانها، فأكمل مسيره وهو يحلم بضربة عسكرية للنبي وأصحابه، يقضي من خلالها على المشروع الإلهي إلى الأبد. كما أنّه من المهم الإشارة إلى التفاوت الكبير في العدة والعتاد بين الجيشين، ففي حين كان جيش المسلمين 313 مقاتلاً؛ فإنّ جيش المشركين فاق الألف، إضافة للتفوق في العتاد من السيوف والرماح والخيول وغيرها، التي كانت تتمتع بها قريش نسبة لجيش المسلمين الذي لم تبلغ سيوفهم العشرة، وأما خيولهم فكانت ثلاثة خيول(3). إلا أن النبي صلى الله عليه وآله قام بمجموعة تدابير حرص من خلالها على توفير الظروف الطبيعية لصناعة النصر، وذلك من خلال تهيئة الشروط والأسباب الطبيعية لذلك، وقد تجلى ذلك من خلال عدة أمور:

1 - جمع المعلومات من خلال بث العيون ومسح المنطقة جغرافياً بشكل عام، ودراسة مرتفعاتها ومائها ومعرفة أماكن سير العدو، وعدده، وعتاده، وقياداته، ومعنويات القاتلين، وغيرها من الأمور التي حرص النبي صلى الله عليه وآله على توفرها بشكل كامل.
2 -بناء غرفة عمليات سميت (بالعريش)، وذلك بإشارة سعد بن معاذ، يراقب الرسول صلى الله عليه وآله منها سير المعركة ويشرف عليها، ويعطي أوامره من خلالها، فضلاً عن مشاركته الميدانية في القتال وتنظيم الصفوف وترتيب سير المعركة.
3 - الاستفادة من الخبراء كمسألة تغوير الماء، أي بناء أحواض تحول دون وصول الماء إلى الأعداء، وقد أشار الحباب بن منذر وهو قائد عسكري مجرب على النبي صلى الله عليه وآله بهذه المكيدة.
4 - تنظيم الجيش، وذلك من خلال عقد رايتين، سلّم واحدة لعلي بن أبي طالب عليه السلام والثانية لمصعب بن عمير، واختيار النبي صلى الله عليه وآله لثلاثة من المقاتلين الأكفاء للمبارزات الفردية التي حدثت قبل نشوب المعركة، فقد اختار النبي صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام والحمزة رضي الله عنه وعبيد بن الحارث، لمبارزة عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
5 - رفع معنويات الجيش، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله يثبتهم ويحرضهم على القتال ويعدهم بالنصر، فقد رُوي عنه أنه كان يجول بين المقاتلين قائلاً: والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة(4).

* النتائج والدلالات:
أما في قراءة نتائج هذه المعركة، فإنّ المسلمين حقّقوا نصراً عسكرياً في معركتهم الأولى بفضل إيمانهم وإخلاصهم، فضلاً عن حصولهم على كمّ كبير من الغنائم والعتاد. إلا أن النتائج السياسية والدلالات الثقافية، كانت هي الأهم والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1 - فرضت دولة النبي صلى الله عليه وآله نفسها كقوة أساسية في المنطقة في وجه قريش وكافة القبائل المتحالفة معها، مما فرض جواً جديداً في موازين القوى في شبه الجزيرة العربية، يبرز من خلال إقامة مجموعة تحالفات ومعاهدات مع كثير من القبائل التي كانت متحالفة مع قريش، ومكنت النبي صلى الله عليه وآله من انتزاع كيانيته بين القوى.

2- شكل هذا النصر صفعة قوية لقريش أزاحتها عن مكانتها ونفوذها بين القبائل العربية، وأضعف من هيبتها وشوكتها في عيونهم، مما فتح المجال لدولة النبي صلى الله عليه وآله بالتمدد سياسياً وثقافياً وسط القبائل، والعمل لدعوة الناس إلى الدين الإسلامي.

3 - فرض هذا النصر ثقافة جديدة مغايرة للثقافات الموروثة عند القبائل، وذلك من خلال الروحية والإخلاص والحماسة وعشق الشهادة، الذي تجلى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن الانتصار ليس رهن الأعداد والعتاد، وإنما رهن الإرادة والتضحية والصبر، وقد أكّد الله تعالى هذه المعادلة بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ (آل عمران: 123)، وساهم ذلك في تقوية أواصر المحبة والتلاحم بين أفراد المسلمين على اختلاف انتماءاتهم ومناطقهم.

4 - أضف إلى ذلك الإيمان بالغيب والتدخل الإلهي الذي شهده المسلمون في هذه المعركة، وأنزل الله فيه قوله تعالى: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (الأنفال: 42- 44). وباختصار، فإنّ هذه المعركة تركت آثاراً إيجابية كبرى على تاريخنا الإسلامي، وسُجل فيها الفضل لأولئك الذين كتبوا بدمائهم بداية المجد لهذه الأمة، فكانوا جديرين بتمجيدهم والخلود.


(1) سيرة سيد المرسلين، ص‏54 55.
(2) المغازي، ج‏1، ص‏20.
(3) سيرة سيد المرسلين، ج‏2، ص‏55.
(4) المصدر السابق.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع