مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

معركة بدر في القرآن الكريم‏

الشيخ إسماعيل إبراهيم حريري

 




قال اللَّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (آل عمران: 123 124). هناك عدة آيات كريمة وردت في القرآن الكريم ذاكرة معركة بدر الكبرى(1)، التي كان النصر فيها حليف المسلمين بإذن اللَّه تعالى. وقد تحدّثت هذه الآيات عن جوانب متعدّدة لهذه المعركة، التي كانت الفيصل في استمرار الدين الإلهي أو فنائه. ولذلك، سنركز في هذه المقالة على بعض تلك الجوانب، وأهمها جانب النصر الإلهي والمدّد الإلهي الذي كان واضحاً في هذه المعركة.

أولاً: إنّ هذه المعركة كانت بين فئتين ذكرهما اللَّه تعالى في قوله عزّ وجلّ: ﴿َقدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ .. (آل عمران: 13). الفئة الأولى التي تقاتل في سبيل اللَّه هي فرقة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأصحابه من المسلمين، والفئة الثانية الكافرة، هي فرقة المشركين من أهل مكة. فالمعركة كانت بين فئة على الحق وفئة على الباطل. وقد جعل اللَّه تعالى ذلك آية فخاطب الناس بذلك في أول الآية، وقيل: إن الخطاب للمشركين واليهود: إنها آية ومعجزة دالة على صدق محمد صلى الله عليه وآله.

ثانياً: تأييد اللَّه تعالى للفئة المسلمة بشتّى أنواع التأييد، ممّا حسم المعركة لصالح المسلمين، وقد قال تعالى في نفس الآية: ﴿... وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ وبما أن الأولى تقاتل في سبيل اللَّه كما وصفها تعالى فمن الطبيعي أن يكون التأييد الإلهي بنصره من نصيبها. هذا، وللتأييد الإلهي مظاهر متعدّدة نستفيدها من الآيات ذات الصلة بهذه المعركة، وهي:

1- التكثير والتقليل في العين: حيث قلّل اللَّه تعالى المسلمين في أعين المشركين في البداية ليتجرؤوا عليهم. فلّما أخذوا في القتال كثّرهم في أعينهم ليجبنوا، وقلّل المشركين في أعين المسلمين ليجترئوا عليهم، قال تعالى: ﴿قدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ... إلى قوله: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ (آل عمران: 13)، والآية تحتمل معنيين:

الأول: أن المسلمين يرون المشركين مثلي عدد أنفسهم أي ستماية وستة وعشرين وهم في الحقيقة كانوا قريبين من الألف، فيكون اللَّه قد قلّلهم في أعين المسلمين وهذا يتناسب مع قوله تعالى: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال: 66).

الثاني: أن المشركين يرون المسلمين ضعفي ما هم عليه، فإذا كان المشركون ألفاً فقد رأوا المسلمين ألفين. ومع ضميمة قوله تعالى في سورة الأنفال ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (الأنفال: 44). فلّما قلّل المشركين في أعين المؤمنين، اشتدّ بذلك طمعهم فيهم وجرأتهم عليهم، وقلّل المؤمنين في أعين المشركين لئلاّ يتأهّبوا لقتالهم، ولا يكترثوا بهم، فيظفر بهم المؤمنون. وهذا لطف من ألطاف اللَّه تعالى برسوله صلى الله عليه وآله وبالمسلمين.

2 - الإمداد بالملائكة: وهذا أمر واضح بيّن في آيات الكتاب الكريم، قال تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ(آل عمران: 124). وقال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (الأنفال: 9). ولا تنافي بين الآيتين، لمكان قوله تعالى في الآية الثانية: مردفين أي متبعين لآخرين، وهم الألفان الباقيان المكملان للعدد المذكور في الآية الأولى. والذي نستفيده من الآيات الواردة في سورة الأنفال، أن الامداد بالملائكة كان لأمور ثلاثة:
أ - جعله اللَّه بشرى للمسلمين بالنصر.
ب - لتسكن قلوبهم وتزول الوسوسة عنها. وإلا، فملك واحد كافٍ للتدمير عليهم، كما فعل جبرائيل بقوم لوط فأهلكهم بريشة واحدة. وقد جمعهما اللَّه تعالى بقوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ (الأنفال: 10). وعقبه تعالى بقوله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال: 10). والمعنى من تمام الآية: إن الملائكة الممدين ليس لهم من أمر النصر شي‏ء، بل هم أسباب ظاهرية يجلبون لكم البشرى وطمأنينة القلب، وإنما حقيقة النصر من اللَّه سبحانه، لا يغني عنه شي‏ء، وهو اللَّه الذي ينتهي إليه كل أمر، العزيز الذي لا يُغلب، الحكيم الذي لا يجهل.
ج - تثبيت المؤمنين، قال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا ... (الأنفال: 12) والتثبيت هو تبشيرهم المسلمين بالنصر، وقيل: كان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل ويقول: أبشروا فإنّ اللَّه ناصركم. وقيل: ثبتوهم بأن قاتلوا معهم المشركين، وقيل: ثبتوهم بأشياء تلقونها في قلوبهم يقوون بها(2).

3 - إنزال الأمن عليهم وزوال الرعب عن قلوبهم بغشيان النعاس لهم: حيث قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد، والإنسان لا يأخذه النوم في حال الخوف، قال تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ (الأنفال: 11) أي أماناً من العدو، أو أماناً أنزله اللَّه عليهم ليناموا ويرتاحوا ليوم غد.

4 - إنزال المطر عليهم ليستفيدوا منه بأمور أربعة:
أ - التطهير، حيث ورد أن المسلمين قد أصبحوا جُنباً.
ب - إذهاب رجس الشيطان عنهم، حيث قد وسوس لهم: أن عدوهم قد سبقهم إلى الماء وأنهم يصلّون مع الجنابة.
ج - الربط على قلوبهم، أي ليشدّ عليها ويزيدهم قوة قلب وسكون نفس وثقة بالنصر.
د - ويثبت به أقدامهم، ذلك أن أقدامهم قد ساخت في الرمل، فلّما نزل المطر، تلبّدت الأرض فثبتت الأقدام. وقيل: هو كناية عن الصبر وقوة القلب. قال تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (الأنفال: 11).

5 - إلقاء الرعب في قلوب الكافرين: فيخافون من المسلمين فيتمكنون منهم، قال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ .. (الأنفال: 12).

6- قتال الملائكة مع المسلمين: كما في تتمة الآية السابقة ﴿... فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ فإن ظاهر الآية، أن الأمر الإلهي بالضرب موجّه إلى الملائكة الذين أمرهم اللَّه تعالى بتثبيت المؤمنين، وقيل: إنّ الملائكة حين أُمرت بالقتال، لم تعلم أين تقصد بالضرب من الناس فعلمهم اللَّه تعالى. والأمر بضرب البنان، يعني الأطراف من اليدين والرجلين، أو خصوص أطراف الأصابع.

ثالثاً: إن اللَّه تعالى قد نسب النصر إلى نفسه، وكذلك القتل والرمي في معركة بدر، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ (آل عمران: 123)، أي ضعفاء عن المقاومة قليلو العدد والعدة، وفي المجمع: يروى عن الصادِقِين عليهما السلام أنهم قرأوا: وأنتم ضعفاء، وقال: لا يجوز وصفهم بأنهم أذلّة وفيهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله(3). وقال تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى (الأنفال: 17) والمراد من القتل، قتل المؤمنين للكافرين بوضع السيف فيهم، وقتلهم القتل الذريع، والرمي هو رمي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الكافرين بكفٍّ من الحصى، ونسبتهما إلى نفسه عزَّ وجلَّ هي نفي أن تكون وقعة بدر وما ظهر فيها من استئصال المشركين والظهور عليهم والظفر بهم جارية على مجرى العادة والمعروف من نواميس الطبيعة. إذ كيف يَسَعُ لقومٍ هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما روي إلا فرس أو فَرَسان وبضعة سيوف، أن يستأصلوا جيشاً مجهزاً بالأفراس والأسلحة والرجال والزاد والراحلة، هم أضعاف عدتهم ولا يقاسون بهم قوة وشدة، إلا أنّ اللَّه سبحانه وتعالى بما أنزل من الملائكة ثبّت أقدام المؤمنين وأرعب قلوب المشركين، وألقى الهزيمة بما رماه النبي صلى الله عليه وآله من الحصى عليهم، فشملهم المؤمنون قتلاً وأسراً، فبطل بذلك كيدهم وخمدت أنفاسهم. فبالحري أن ينتسب ما وقع عليهم من القتل بأيدي المؤمنين والرمي الذي شتت شملهم وألقى الهزيمة فيهم إليه سبحانه دونهم. ففي الآية نحو عنايةٍ بالنظر إلى استناد الواقعة بأطرافها إلى سبب إلهي غير عادي، وهذا لا ينافي استنادها بما وقع فيها من الوقائع إلى أسبابها القريبة المعهودة في الطبيعة، بأن يعدّ المؤمنون قاتلين لمن قتلوا منهم، والنبي صلى الله عليه وآله رامياً لما رماه من الحصى(4).

أقول: بعد هذا العرض المختصر لمعركة بدر في بعض الآيات القرآنية، لا يبقى لدى المؤمن شكٌّ في أنّ اللَّه ينصر من ينصره ويؤيد بنصره من جاهد في سبيله، وهذه سنّة اللَّه تعالى في خلقه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم (محمد: 7). وما النصر الإلهي في حرب تموز 2006 عنّا ببعيد.


(1) في مقابل غزوة بدر الأولى التي وقعت في جمادى الآخرة بعد سنة تقريباً من مقدمه صلى الله عليه وآله المدينة.
(2) مجمع البيان، مجلد 2، ج‏9، ص‏116.
(3) بحار الأنوار، ج‏19، ص‏208.
(4) تفسير الميزان، ج‏9، ص‏38 بتصرّف.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع