مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الجهاد في الإسلام على ضوء معركة بدر

مقابلة مع سماحة الشيخ علي سائلي(*)

حوار: موسى حسين صفوان‏


ثلاث عشرة سنة في مكّة، وسنتان في المدينة مرّت على عمر البعثة النبوية، عانى فيها المسلمون أشدّ أنواع الفتنة والتعذيب، ولم يؤذن لهم بالقتال. ثم جرت أحداث وتفاصيل فيها ما فيها، فأنزل اللَّه سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير (الحج: 40)، وكانت معركة بدر الكبرى التي شكلت مفصلاً تاريخياً في حياة الدعوة الإسلامية، بل في مسيرة الحضارة الإنسانية... وقد اختلفت آراء الباحثين حول أثر هذه المعركة، وبالتالي تداعيات التحول من مشروع الدعوة المسالمة إلى الدعوة المجاهدة، وبالتالي أثر ذلك على العلاقة بين الروحانية والطبيعة القتالية. وكان لا بد من الدخول في التفاصيل، فحملنا هذا الموضوع مع ما فيه من تفرعات إلى سماحة العلامة الشيخ علي سائلي عسى أن نجد الجواب الشافي...

* سماحة الشيخ: لماذا تعتبر معركة بدر الكبرى نقطة تحول أساسية في التاريخ الإسلامي؟
أولاً، أريد أن أشكر الأخوة الكرام في مجلة بقية اللَّه، هذه المجلة والشكر للَّه احتلت مقاماً جيداً في أذهان الشباب في المجتمع اللبناني، وقبل أشهر اتصل بي مندوب إحدى المؤسسات الإيرانية وسألني عن المجلة، يبدو أنها تحظى بالاهتمام هناك أيضاً. أما فيما يتعلق بالسؤال، فيمكننا القول إن معركة بدر الكبرى، كما عبرتم، كانت من المعارك الأساسية في الإسلام، حيث كانت أول معركة شاملة حدثت في تاريخ المسلمين، بحيث شعر كل مسلم بأن مصير إسلامه وحياته يتوقفان على ما تفضي إليه هذه المعركة. وحسب دعاء النبي صلى الله عليه وآله الذي روي عنه: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد..." نعرف أنها كانت مصيرية. وبحسب ما ينقله المؤرخون عن زعماء قريش، كانوا يعتبرون أنهم إن لم يخوضوا تلك المعركة مع المسلمين آنذاك، فلن يستطيعوا ذلك فيما بعد. وبهذا، كانت حرباً مصيرية بين الكفر والإيمان...

* هل كان من الممكن تجنب هذه الحرب، وبالتالي الاكتفاء بالصبر والتوكل؟
برأيي المتواضع، لم يكن بالإمكان تجنب مثل هذه الحرب، لأن ذلك يعتبر فراراً وتهرباً من المسؤولية، وذلك أن الخلفيات التي أدّت إلى هذه المعركة لم تكن عادية. فالمشركون دخلوا بيوت المسلمين ونهبوها، وسرقوا أموالهم، وبعد ذلك حملوا أموال المسلمين على الإبل، وشكلوا قافلة تجارية من مكة إلى الشام. هل هناك إهانة أكبر من هذه الإهانة؟ أو هتك لحرمات الإنسان أكبر من هذا؟ وهل السكوت عن مثل هذا الأمر هو سكوت ديني؟ هل هو سكوت إنساني؟، أم هو سكوت سلبي؟ لا شك في أن القيام في وجه السارق، يعتبر عملاً إنسانياً وسلوكاً صحيحاً لدى جميع المفاهيم الإنسانية. وباختصار، حينما نتصور خلفيات معركة بدر، هل يمكن القول إنه كان بإمكان المسلمين تجنب هذه المعركة؟ برأيي، إن هذه الحرب فرضت على المسلمين، فقد خُيّروا بين الحفاظ على الكرامة والشرف والقيم الإنسانية عن طريق الجهاد والدفاع عن النفس، وبين القعود عن القتال. وكل قارئ يعرف أن المسلمين لو لم يقاتلوا لكانوا ملامين، وربما غير موجودين إلا في كتب التاريخ.

* هل كان لمنافقي المدينة دور سلبي في التأثير في المسلمين لتعجيل القتال، حيث إن بعض المنافقين كانوا يعيبون على المهاجرين ترك أموالهم تنهبها قريش في وقت يقاسمون أهل المدينة مالهم؟
هذا المنظار لرؤية خلفيات معركة بدر ليس دقيقاً، فالمسلمون آنذاك صنعوا الكثير من الفضائل، فالمهاجرون تركوا بيوتهم وأموالهم ومزارعهم من أجل الدين، والأنصار أنفقوا أموالهم في سبيل اللَّه لإخوانهم من أجل الدين. وهذا النوع من الانفاق والهجرة للمال، يعتبر فضيلة للأنصار وفضيلة للمهاجرين، أما ما حاول المنافقون بثه من روح غير إنسانية وغير دينية، فلم يكن يلقى اهتماماً عند المسلمين.

* قال تعالى قبيل معركة بدر: "أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا وأن اللَّه على نصرهم لقدير"، فهل كان المرتكز في وعي المسلمين أنه لم يكن قتال، ثم أذن لهم به؟ وبشكل عام، ما هي أسباب نزول هذه الآية؟
هذه الآية نزلت قبيل معركة بدر، ومعركة بدر حدثت في السنة الخامسة عشرة من بعثة الرسول صلى الله عليه وآله. يعني قبل نزول هذه الآية بأربعة عشر عاماً، لم يكن هناك أي حرب. وفي هذه الفترة الطويلة، تحمّل المسلمون كثيراً من الأذى والإهانة والتعذيب، وكانوا يلجأون إلى آيات الرحمة ويستمرون في التبليغ الديني، حتى شعر المشركون بانتشار الدين واتساعه، فحاولوا استفزاز المسلمين لجرهم إلى المعركة، من خلال الإهانة والتعدي على الكرامة والشرف، حتى يحاربوهم، وعندها يستأصلون الإسلام من جذوره، ولذلك نهبوا أموالهم، وحصلت مقدمات معركة بدر ونزل الإذن بالقتال. وبعبارة أخرى، فإن الحرب ليست هدفاً في الإسلام، بل هي حرب دفاع عن كرامة الإنسان وحرماته، وقوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون" يبين أن الحرب دفاعية، والاعتداء من المشركين هو سببها، فلم يقل عزَّ وجلَّ: أذن للمسلمين... ولا للذين آمنوا، وبعض المفسرين يقول إن الباء في كلمة بأنهم سببية، يعني لأجل أنهم ظلموا... وكان علي عليه السلام يقول لجنوده "... وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم"(1)، فالمشركون هم الذين أصروا على القتال، وكان على المسلمين الدفاع، ولو لم تكن كل تلك الخلفيات، ولو لم يحاول المشركون النيل من شرف المسلمين، وتهديد وجودهم، لم يكن المسلمون ليدخلوا الحرب.

* يقول المستشرق "توينبي" لو أن محمداً ظلّ داعية لكان ذلك أفضل، فهل كان الإذن بالقتال رهناً بظروف مقدرة المسلمين على القتال؟
هذا المستشرق يريد الإيحاء بأن الإسلام ديانة حربية، وكما قلت هذه الرؤية ليست دقيقة، فالقول إن هناك إهانة وظروفاً مشابهة قبل معركة بدر ولم يؤذن بالقتال فيه مغالطة. فقبل معركة بدر، كانت الإهانة فردية، مثلاً الغني يؤذي غلامه، ولم يشكل ذلك خطراً مصيرياً على المجتمع الإسلامي بأسره، كأن يدخلوا إلى المدينة ويبيدوا المسلمين عن بكرة أبيهم، فقد كانوا يريدون القضاء على الإسلام... نلاحظ دعاء الرسول صلى الله عليه وآله: "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد..." ولدي كلام آخر للرد على توينبي، فلو كان الإسلام ديانة حربية، فبعد هجرة الرسول صلى الله عليه وآله إلى المدينة، حصلت تقريباً ثمانون غزوة، وعدد القتلى وصل خلال كل تلك الغزوات إلى أقل من ألف شخص، وعدد القتلى من المسلمين لم يتجاوز المائتين، يعني لو كان الإسلام ديانة حربية، هل كان هذا هو عدد القتلى؟ وهل كان يوصي بالحفاظ على النساء والشيوخ والأطفال وكل من أغلق بابه؟ إلى ما هنالك من آداب الحرب... والخلاصة، لم يكن الإسلام ديناً حربياً، فقد كانت كل حروبه دفاعية.

* نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وآله لم يكن يخير بين القتال والمصالحة، إلا اختار المصالحة، مثل صلح الحديبية، وكان المسلمون يومها أقوياء "لو قاتلوكم لولوكم الأدبار..."، وأيضاً مع يهود خيبر ومع نصارى نجران... الخ.
تعليقاً على هذا الكلام اللطيف، وتأكيداً على أن المعركة يوم بدر كانت معركة كرامة ووجود للإسلام يقول تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (البقرة: 251) ويقول أيضاً: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 40)، يعني المعابد كلها، حتى معابد النصارى تهدم، أي يهدم الدين. وبعد هذه الآية يقول: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاة (الحج: 41). المسلمون بعد الانتصار الإلهي، ماذا يفعلون؟ هل ينتقمون؟ يقول تعالى: ينشرون الرحمة، أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، أي: يعززون العلاقة بينهم وبين الباري من ناحية، ويعززون العلاقات الاجتماعية من ناحية ثانية عبر إيتاء الزكاة، وينشرون المعروف والفضائل ولا يفسدون في الأرض. هذه الآيات تدل بوضوح على خلفية معركة بدر ونتائجها والأمور التي التزم بها المسلمون بعد المعركة.

* من المعلوم أن طبائع الناس تتأثر بوظيفتهم العملية، فلو فرضنا أن شخصاً يقضي معظم أوقاته داخل المسجد هذا ستكون له طبيعة روحانية مميزة. أما الشخص المقاتل، فهذا تتغير طبيعته. والسؤال كيف نوفق بين الروحية على المستوى الفردي وبين طبيعة المقاتل؟
إنه سؤال مهم جداً لناحية علم النفس. الأصح في هذا الموضوع، أنه لو ترك المسلمون في حالة قتالية وجهادية مستمرة، يمكن أن يحدث في النفس فقدان للرحمة، وطغيان لفكرة القتل والدم والظفر على العدو. أما الإسلام فلا يجعل القتال هو الأساس والأصل، فالأصل هو عبادة اللَّه، والقتال حالة عارضة. وفي بعض المعارك، علّم الرسول المقاتلين الالتزام بالشعارات العبادية بدل الشتائم (إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه). فعبادة اللَّه تعالى هي التي تحفظ معنويات المجاهدين وروحانياتهم، والمسلمون كانوا دائمي الذكر للَّه، لذلك ورد فيهم أنهم رهبان الليل وأُسْدُ النهار. فلم لو تكن تلك الرهبانية في الليل والعبادات، لكانت الحرب في النهار حرباً علمانية فارغة من الدين والإنسانية، أي تكون حرباً لأجل الحرب، تكسب المقاتل لذّة قتل الآخرين. لكن بعبادة اللَّه وذكره الدائم، يشعر الإنسان بالمعنوية، ولا يقتل نفساً محرّمة، بل يقتل المعتدي، ولذلك ورد في بعض مجالس عاشوراء، أن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن يقتل كل من يقعون تحت سيفه، ولما سأله الإمام زين العابدين، أجابه بأن ذراريَ مؤمنة تَخرج منهم... والمسلمون، عندما يقاتلون في سبيل اللَّه، يبيعون نفوسهم للَّه، ويقدمون على الموت حباً باللَّه. وهذا بحد ذاته له مردود روحي على الإنسان. وعندما يعرّض نفسه للخطر، فهو في حالة تجارة مع اللَّه، حيث يبيع نفسه للَّه سبحانه، بينما يصبح القتال غريزة ونزوة عندما لا يكون للَّه. فالقتال ليس هدفاً لذاته، بل هو ضرورة للإصلاح، مثل الطبيب عندما يجري عملية جراحية، وهكذا تتضح صورة الجهاد، وفلسفة القتال في الإسلام.


(*) مدير عام معهد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله العالي للشريعة والدراسات الإسلامية.
(1) نهج البلاغة، الكتاب 14.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع