معركة بدر نموذجاً (1)
شادي علي*
إنّ اغتيال مناضلين عظام، وتعمّد قتل العزّل، وإهلاك الحرث والنسل، وتخريب البيئة والاقتصاد، كلّها أمور يرتكبها الطغاة ظنّاً منهم أنّهم بذلك يحقّقون انتصاراً على الطرف الآخر، ولكنّهم يغفلون عن أنّها خطايا أخلاقيّة تتحدّى سنن الله تعالى في الوجود، ولا تلبث أن ترتدّ على أصحابها.
* «النصر» بين مفهومين
إنّ الإيمان بوجود إله حكيم قادر عليم يُحدث ثلاثة تغييرات جذريّة في إدراك كيفيّة تحقيق الانتصار في مسار التاريخ:
1. المؤمن بالله يرى أنّ الوجود يتّجه إلى انتصار حتميّ للحقّ على الباطل بموجب الوعد الإلهيّ في الوحي، وأنّ الله لم يخلق هذا الوجود عبثاً ولم يترك الناس سُدى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: 55).
2. المؤمن يرى أنّ الخالق الحكيم لهذا الوجود وضع فيه سنناً وقوانين حاكمة عليه، ولا يمكن الوصول إلى النصر إلّا من طريق الامتثال لهذه القوانين والسنن: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النساء: 26).
3. المؤمن يعلم أنّ الوصول إلى هذا الانتصار يستلزم الامتثال لهذه القوانين والسنن الإلهيّة: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (الفتح : 22).
أمّا من لا يؤمن بالله فيقتصر نظره على المعايير الظاهرة وميزان القوّة الماديّة، الذي لا يحقّق إلّا غلبةً لبعض الوقت؛ ولا يحقّق انتصاراً وجوديّاً إستراتيجيّاً لأنه يهمل كلّ الأبعاد المعنويّة والأخلاقيّة في سلوكه وحركته: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ (الروم: 7)، ويصبح من مصاديق: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف: 26).
* دروس من معركة بدر
في يوم بدر، كان عديد قريش أكثر بثلاثة أضعاف من عديد المسلمين: فالمسلمون كانوا يملكون فرساً أو فرسين وأقلّ من عشرة سيوف، ومدينتهم معزولة ومحاصرة وقد صودرت أملاك أصحابها، فيما أموال قريش تفوق الحصر والعدد. إلّا أنّ امتثال المسلمين للتكليف الإلهيّ بنظْم الأمر، وبذل الوُسع بالإمكانات المتاحة، والصبر، والمقاومة، حقّق نصر «الفئة القليلة» على «الفئة الكبيرة» المستكبرة.
1. مجريات المعركة: ندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إلى الخروج وترك الخيار لهم، ضارباً بذلك المثل في طواعيّة القتال مع الكفر، وخطورة توفّر الدافع القائم على الإيمان، والاعتقاد الجازم بصحّة القضيّة التي يجري الخروج لأجلها. إلّا أنّ هذا المبدأ لا يتعارض مع الانطلاق بجديّة نحو القتال كمهمّة تستدعي شروطاً لا بدّ من توفيرها. كما أنّه بعد أن أتته أخبار مسير قريش إليه، وقف في أصحابه خطيباً واستشارهم في الأمر، وأحبّ أن يكونوا على علم بحقيقة ما يجري. كما التفت إلى الأنصار وقال: أشيروا عليّ، رغبة في تقدير حماستهم للقتال خارج المدينة. فأجابوه بما سرّه، قائلين: فوالذي بعثك بالحقّ، لو استعرضت بنا هذا البحر وخضته لخضناه معك ما بقي منّا رجل واحد.
لقد كان هدف الخروج، إذاً، وضع الإيمان والعهود على المحكّ، وفرز الصادقين، وبدء عمل الرسالة الحقيقيّ في الإشعاع، والخروج من الدائرة الضيّقة التي آن الآوان للانطلاق منها إلى العالم. أمّا قريش من ناحيتها، فكانت تنظر للحرب أنّها فرصة لاستعادة مجدها المهدّد، وأخذت توصي بعضها بعضاً، كما قال أحدهم: «يا معشر قريش، انظروا غداً إذا لقينا محمّداً وأصحابه، فاتّقوا على شبّانكم وفتيانكم، وعليكم بأهل يثرب لكي نرجع بهم إلى مكّة ليبصروا من ضلالتهم ما فارقوا من دين آبائهم(1)! ومثّل هذا الخيلاء نقطة الضعف التي مكّنت المسلمين من كسر الروح المعنويّة لقريش في الدقائق الأولى من المعركة عندما برزت النخبة من الطرفين لبعضهم بعضاً.
* نتائج المعركة
كانت بدر ساحة قتال المبادئ والأفكار والدوافع، جسّدتها القبضات والسيوف في معركة صارمة. غلبت فيها الفئة القليلة التي نصرها الله، الفئة الكبيرة التي بغت وأدارت للهدى ظهراً وصمّت عنه سمعاً. وكانت لها ضرورة وحاجة فاقت في الأهميّة ذلك المنظر الرهيب في وادي بدر حين انهزم المشركون تاركين أسلحتهم وأمتعتهم، وأبطال الإسلام في وسطهم يأسرون ويقتلون، والرؤوس تتطاير والأجسام تتهاوى، والملائكة يؤيّدون المؤمنين بنصر الله. لقد آن للإسلام أن ينطلق من معقله، فخرج المسلمون يحقّقون الانطلاقة، وبجهد وعزم وإيمان صادق بدأوا زحفاً غيّر وجه التاريخ. فلم تسترجع قريش هيبتها بعد ذلك اليوم بالرغم من أنّها حقّقت انتصاراً جزئيّاً في معركة أُحُد، لكنّ المسار الكليّ للمشروع الإسلاميّ كان تصاعديّاً انتهى بمعركة فتح مكّة.
* إجراءات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
رغم اختلال ميزان القوّة العسكريّة بين الفريقين، إلّا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قام بمجموعة تدابير حرص من خلالها على توفير الظروف الطبيعيّة لصناعة النصر، وذلك من خلال تهيئة الشروط والأسباب الطبيعيّة، وقد تجلّى ذلك من خلال أمور عدّة:
1. جمع المعلومات من خلال بثّ العيون ومسح المنطقة جغرافيّاً بشكل عام، ودراسة مرتفعاتها ومائها ومعرفة أماكن سير العدوّ، وعدده، وعتاده، وقياداته، ومعنويّات المقاتلين(2).
2. بناء غرفة عمليّات سمّيت (بالعريش)، وذلك بإشارة سعد بن معاذ، يراقب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منها سير المعركة ويشرف عليها، ويعطي أوامره من خلالها، فضلاً عن مشاركته الميدانيّة في القتال وتنظيم الصفوف وترتيب سير المعركة(3).
3. الاستفادة من الخبراء كما في مسألة تغوير الماء، أي بناء أحواض تحول دون وصول الماء إلى الأعداء. وقد أشار الحباب بن منذر، وهو قائد عسكريّ مجرّب، على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المكيدة.
4. تنظيم الجيش، وذلك من خلال عقد رايتين، سلّم واحدة منهما للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام والثانية لمصعب بن عمير، واختيار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لثلاثة من المقاتلين الأكفاء للمبارزات الفرديّة التي حدثت قبل نشوب المعركة، فقد اختار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام والحمزة (رضي الله عنه) وعبيد بن الحارث، لمبارزة عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
5. رفع معنويّات الجيش، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يثبّتهم ويحرّضهم على القتال ويعدهم بالنصر، ورُوي عنه أنّه كان يجول بين المقاتلين قائلاً: «والذي نفس محمّد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجلٌ، فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلّا أدخله الله الجنّة»(4).
* الدلالات العسكريّة للمعركة
يجب قراءة النصر الإلهيّ في معركة بدر كونه لم يكن نصراً محدوداً في معركة محدودة بالمقياس العسكريّ، بل كان يترتّب على هذه المعركة مصير المشروع الإسلاميّ. ولو لم يتحقّق النصر للمسلمين فيها، لكان قُضي على الرسالة في مهدها. يظهر ذلك في دعاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: «اللهم أنجز لي ما وعدّتني (...) إنّك إن تهلك هذه العصابة من الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً»(5). كما ظهر ما عُرف بالمفهوم العسكريّ «الانتصار الدفاعيّ» ضدّ المشروع القرشيّ، وامتدّت السياسة الدفاعيّة للمسلمين في وقائع متتالية منها: غزوة الخندق، ما أدّى إلى مراكمة القوّة القتاليّة والأسباب الماديّة، والحصول على كمّ كبير من الغنائم والعتاد التي أثّرت في مسار صعود مشروع الإسلام والتحوّل إلى المسار الهجوميّ في معركة فتح مكّة.
أمّا الدلالات الأخرى للمعركة، فنستعرضها في العدد القادم بإذن الله.
*باحث في مركز الاتّحاد للأبحاث والتطوير.
(1) المغازي، الواقدي، ص 50.
(2) يراجع: الصحيح من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، العلامة جعفر مرتضى، ج 5، ص 68.
(3) يراجع: السيرة النبوية، ابن هشام، ص 621.
(4) سيرة ابن هشام، ج2، ص 268.
(5) ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص2241.