د. حسن سلهب
في بداية كل عام دراسي جديد، يقف التلميذ أمام مجموعة من الظروف والمتغيرات التي تختبر فيه القدرة على التكيُّف وبالتالي التآلف مع الجديد. ومع كل تجربة يخوضها في هذا المجال، تنمو خبرته وبالتالي تتحسَّن قدرته على التكيف.
* الإستعداد النفسي
يتفاوت الاستعداد النفسي لدخول المدرسة عند التلامذة، تبعاً لصفوفهم، وبشكل تصاعدي مع ارتفاع الصفوف. وبالرغم من كل الاحتفالية التي يظهرها الأهل والمدرسة، وحتى التلميذ نفسه، لليوم المدرسي الأول، إلا أنه سرعان ما ينجلي الموقف عن ما يشبه الخدعة التي وقع فيها التلميذ المسكين، حيث سيقضي ساعات يومه الأول بالكثير من الصبر المبلَّل بالدموع خلف أصوات البكاء المتواصلة. تنحسر الوحشة قليلاً في صفوف الحلقة الأولى، لكنها تحضر في ذكريات المشاهد السابقة لهذا اليوم، حيث الأحضان المتناوبة، أو الحرية في الفعل والقول. والمقارنة بين الحالي والسابق تأتي على ما تبقَّى من تصوُّرات واعدة لهذا اليوم الصعب. وما يزيد الأمور رهبة انهماك القيِّمين بأمورٍ لا تتصل بما يدور في خواطر هؤلاء الضيوف الصغار. والفارق بين الحريص على الانضباط أو تطبيق النظام، والباحث عن الذات والأمان كبير، ولسان حال الكثير من التلامذة يقول للقيِّمين: هذه أنظمتكم قد طُبِّقت تماماً، لكن من يجمع النفوس الحائرة، ومن يعيد إليها إحساسها بالحياة الهانئة في هذه الزحمة المرعبة؟! مع تلامذة الحلقة الثانية، وبصورة أكبر الحلقة الثالثة، يختفي الشعور بالوحشة بشكلٍ ملحوظ، ليحل محله شعورٌ آخر بالحاجة إلى الاستقرار، تبدأ بمعرفة المكان والأشخاص والمطلوب وغير ذلك من المتغيرات في كل عام.
من هنا، قد يكون من المفيد تمكين التلميذ من معرفة أبرز المتغيرات التي سوف يواجهها. ولا بأس بزيارة مسبقة للمدرسة يتعرَّف التلميذ من خلالها إلى صفِّه، وطريقة تحرُّكه أو إفادته من المرافق المتاحة. ولا بأس أيضاً من معرفة وجوه معلميه أو المسؤولين التربويين عنه، وبالتالي تحقيق درجة مقبولة من الإلفة الأوّلية معهم. ولا بد للمعلمين أو القيِّمين على المدرسة من الأخذ بعين الاعتبار هواجس اليوم الأول. وليس من المناسب، تحت عنوان ضبط مجموعة من المشاغبين أو غير الملتزمين بنظام المدرسة، تجاهل هذه الهواجس، وبالتالي الظهور بقوة السلطة التي تشكل عنصراً بالغ التأثير على خواطر تلامذة اليوم الأول واستقرارهم النفسي. إن أَكثر ما يؤثر على الاستعداد النفسي للتلميذ في اليوم الأول إِحساسه بالفارق مع زملائه في الصف. فالتلميذ الذي لم تكتمل مستلزماته في الزي المدرسي، أو الكتب والقرطاسية، أو حتى المكتملة بطريقة غير معادلة لزملائه، سيشعر بنوعٍ من الدونية، وبالتالي الانطواء على نفسه بدرجات متفاوتة وفق مستوى الفارق وفهم التلميذ له. والكلام نفسه أثناء شعوره بالفارق في مستواه الذهني والعلمي مع الزملاء.
إن درجة عالية من الشعور بالإحباط قد يعيشها التلميذ، لا سيما في صفوف الحلقة الثانية والثالثة، جراء عدم تمكنه من الإجابة على مجموعة محدودة من الأسئلة قد طُرِحت من قبل المعلم وأجاب عليها معظم الزملاء. ولن يترك الزملاء مع الأسف فرصةً لتكريس هذا الشعور إذا ما بدا لهم شيءٌ من هذا القبيل.
من هنا، تبرز أهمية تجنُّب كل ما من شأنه إظهار الفوارق بين التلامذة، لا سيما الاجتماعية والعلمية منها، وفي الوقت نفسه تمكين التلميذ من اكتساب ثقة ذاتية تدعم موقفه أمام الزملاء. يمكن القول إن عملية الاستعداد النفسي للأيام الأولى المدرسية عند الأطفال والتلامذة غير متوافرة بالشكل المطلوب، وتحتاج إلى برامج تمكين مسبقة، تتولاها إدارة المدرسة بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى برامج تحصين هي خلاصة التربية البيئية، حيث تتوافر للطفل والتلميذ فرص عديدة لبناء صحة نفسية من شأنها تزويده بمناعة عالية أمام هواجس الجديد أو الغريب وأوهامه. فالطفل الذي خاض تجارب عديدة مع الجديد والغريب خارج المدرسة، سيكون أقدر على التكيُّف مع جديد المدرسة وغريبها. والطفل الذي اعتاد على الانتظام والانضباط خارج المدرسة، لن يجد صعوبة كبيرة في التزام الأنظمة المدرسية، أو التآلف مع ضوابطها العامة. إن العافية النفسية للطفل، من شأنها تمكينه من تجاوز معظم مفارقات الأيام المدرسية الأولى. والاحتمالات عالية، مع هذه العافية، في أن تتحوَّل هذه الأيام إلى فرص جدِّية لتكوين علاقات ومعارف جديدة تملأ حياة الطفل نشاطاً وحيوية.
* الاستعداد الذهني والعلمي
من المميزات السلبية لنظامنا المدرسي في لبنان طول العطلة الصيفية التي تتجاوز في بعض الأحيان لا سيما في صفوف الحلقة الأولى والروضات المئة يوم. وهي فترة كافية لمسح كل ما حملته الذاكرة القصيرة المدى، وبعض المتوسطة. وتبدو المأساة عندما يرى المعلمون تلامذتهم وقد عادوا بلا معظم المعارف والمهارات، التي لطالما صرفوا عليها أوقاتاً وجهوداً لا تُنسى. وإذا كان هذا الكلام لا ينطبق على الجميع في المستوى نفسه، إلا أنه يشمل الجميع من دون استثناء. يباشر التلامذة يومهم الأول بإحساس ملحوظ بالفراغ الذهني والعلمي، لا سيما في السنوات الأولى من التعليم الأساسي. ولن يستعيد هؤلاء خبرتهم السابقة أو نشاطهم الطبيعي، قبل أسبوعين على الأقل، وبجهود ملحوظة من قبل المعلمين في هذا الاتجاه.
في الموضوع الذهني، أو الاستعداد الطبيعي، لا يطول الكلام. ويكفي القول بضرورة تنظيم الحياة البيولوجية للتلميذ، لا سيما في مجالي النوم والغذاء، كي يكون أكثر استعداداً لأيامه المدرسية الأولى، مع الالتفات الدائم لأهمية وجوده في بيئة غنية بالأطفال والعناصر الإدراكية الملائمة. لا يعني ما تقدَّم سهولة تحقيق ذلك، بل ربما كان واحداً من أبرز التحدِّيات التي يعيشها أطفالنا اليوم، والتي تتسبَّب بالكثير من توترهم واضطراب نفوسهم وأذهانهم، لا سيما إذا ما لاحظنا ارتباط ذلك بالنمط العام لحياة الأسرة، أي صعوبة فصل نظام الراحة والغذاء للأطفال عن نظام الراحة والغذاء للأسرة مجتمعة. بالرغم من التحدِّيات النفسية الصعبة التي يكابدها الطفل في تجربة بداية العام الدراسي، إلا أنه بالإمكان توقُّع معالجة لهذه التحدِّيات، أو على الأقل هبوط آثارها السلبية إلى المستوى المقبول. والكلام نفسه في موضوع الاستعداد الذهني. لكن القضية المفتوحة في هذا المجال تكمن في الاستعداد العلمي، وهو أمرٌ مرتبطٌ بالهوية الأساس للمدرسة، كونها مركزاً علمياً، ولها غاياتها العلمية بالدرجة الأولى. وموضوع هذا الاستعداد يطال الصفوف العليا، كما يطال الصفوف الدنيا، سواء انطلق من ضرورة الاتساق بين خبرة الطفل ما قبل المدرسة وخلالها. وهذا ما يُلاحظ في الصفوف الأولى بشكل أكبر، أو من ضرورة الاتصال بين تجارب التلميذ العلمية عبر السنوات الدراسية، وهذا ما يُلاحظ في الصفوف الوسطى وما فوق بشكل أكبر. في أي حال، لا بد من العناية بالسيرة العلمية للطفل أو التلميذ، كي تكون أكثر اتساقاً واتصالاً. في مرحلة الروضات، لا بد من تمكين الطفل من مجموعة معارف وقدرات ومهارات ترتبط باللغة والتفكير المنطقي، وبعض المهارات الخاصة بقدرته على التحكُّم الأوَّلي بأعضاء جسده.
من هنا أهمية خوض الطفل لتجارب غنية في مجال التعبير والفهم، وممارسة الألعاب ذات الطابع المنطقي، فضلاً عن عمليات التلوين والتركيب والترتيب، وغير ذلك من أعمال الخدمة الذاتية. وإن ما يُقبل من التلميذ في السنة الأولى المدرسية، يرتبط بالحد الأدنى المتوافر لأمثاله في مجتمع المدرسة.
أما في حلقات التعليم الأساسي والثانوي، فمن المفترض إنجاز مراجعة شاملة للمواد اللغوية والعلمية السابقة، المتصلة أو المؤثرة في مواد الصف الجديد. هذا يعني ضرورة فتح محفظة التلميذ قبل أسبوعين على الأقل من موعد بدء العام الدراسي. قد يكون العمل بما يسمى دفاتر العطلة الصيفية واحداً من الخيارات المفيدة في هذا المجال. ولا بأس أيضاً من تقديم خلاصة عامة للتلميذ عن علاقة المواد اللاحقة بالمواد السابقة، بقصد حمله على تدعيم مكتسباته اللغوية والعلمية لمصلحة المكتسبات المتوقعة. إنها عملية دخول جديدة في أجواء العلم والمعرفة، كي يحضر المعنى الحقيقي للمدرسة في ذهن التلميذ، ولا يبتعد بتصوراته المختلفة عنه. وعملية التكيّف لا تتم في علاقات الأنس أو تجهيزات الترفيه، على ضرورتها وأهميتها، بل في الحصيلة اليومية من العلم والمعرفة، حيث تصل المتعة العقلية والنفسية إلى الذروة. صحيحٌ أن المدرسة سوف تقوم بإعادة تهيئة التلميذ في بداية العام، لكن لا ينبغي أن يُعتمَد على ذلك كلياً، لا سيما في صفوف الحلقة الثانية وما فوق. طموحنا في الاستعداد يتجاوز ما تهدف إليه المدرسة، وهو إعادة التذكير ببعض المعارف، إلى ما يؤمِّن اتصالاً حقيقياً للتلميذ بمكتسباته العلمية السابقة. وهذا لا يتوافر إلا عبر تجربة ذاتية في المراجعة والتطبيق تشمل معظم المواد اللغوية والعلمية ذات الطابع التأسيسي في مسيرته المدرسية. قد يكون في ذلك نوعٌ من المبالغة في نظر البعض، لكن القضية في نظرنا تنطلق من قناعة عامة ترى في العلم والمعرفة سلوكاً يومياً، ونمطاً يطبع الحياة، ولا تكتفي بكونها حاجةً محدودة في الزمان والموضوع.
يبقى أن نشير إلى حالات الاستعداد الخاصة بتغيير مدرسة التلميذ، وإعادته لصفه، أو حتى رفضه المسبق لدخول المدرسة، نتيجة تجربة سابقة فيها. وهي حالات تستلزم قدراً عالياً من الاهتمام والرعاية والتوجيه من قبل الأهل والمدرسة على السواء. ويكفي القول في هذه المقالة المحدودة: إنه في مثل هذه الحالات لا سيما في الحالة الثانية والثالثة يكون المستقبل المدرسي للتلميذ عرضة للخطر، ما يعني ضرورة السعي في تعديل موقف التلميذ من المدرسة، وليس الاقتصار على مجالات الاستعداد المذكورة فحسب.