الشيخ تامر محمد حمزة
الحلقة الذهبية التاسعة في سلسلة الإمامة، هي بحق معجزة الإمامية ودليل على صدق دعواهم في أن الإمامة منصب إلهي دون أن يكون للبشر فيها أي مدخلية، فإمامته تشابه نبوة عيسى عليه السلام. لقد تولى مولانا الإمام الجواد منصب الولاية والإمامة عن عمر لم يتجاوز سبع سنوات. وقد سلم لذلك القريب والبعيد، ودان كل شيء له حتى الخليفة. ولذا، لم نجد من اختلف أو تخلف عن إمامته سوى من أغشى أبصارهم العمى وغلف قلوبهم التعصب والحسد. وقد جلس بين يديه أكابر العلماء واستفاد منه أجلاء الفقهاء، دون أن يستفيد من أحد منهم أبداً. فشخصيته العلمية عملاقة، ونضوج فكره بلغ غاية الكمال، وحسن أدبه علا الجمال، وبسمو أخلاقه ساوق الجلال. فقد أحيا الحق وأمات الباطل. وقد قال فيه الإمام الرضا: هذا المولود الذي لم يولد أعظم بركة على شيعتنا منه(1).
وعن حكيمة بنت موسى بن جعفر الكاظم قالت: لما حملت أم أبي جعفر الجواد به كتبت إليه (الرضا): جاريتك سبيكة قد علقت، فكتب إلي إنها علقت ساعة كذا من يوم كذا من شهر كذا، فإذا هي ولدت، فالزميها سبعة أيام. قالت: فلما ولدته وسقط إلى الأرض، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله(2). والمهم صرف الكلام فيما هو المهم في ما يتعلق بمناظرات الإمام الجواد، إما لبيان الحق للناس، وإما لإقناع من حاججه، أو لإفهام من خاصمه. فعلومه الغزيرة وحكمته اللامتناهية تمثل عصا موسى التي تلقفت كل ما جاء به سحرة البلاط العباسي من فتاوى تفتقد الأصول أو علوم تحتاج إلى دليل. لكن وللأسف، فبعد أن تبيّن الحق لسحرة موسى سجدوا لله تعالى، وسحرة الإمام الجواد أصروا على عنادهم مقتاً لأهل البيت وطمعاً في فتات البلاط العباسي. وأما مناظراته المباركة، فتتم في محورين:
* أسلوب المناظرات
لقد تصدى الإمام للرد على الآخرين بأسلوب المناظرات للأمور التالية:
أ- إثبات إمامته: في ظل أجواء التيه والتشكيك وعدم توفر الظروف الكاملة لبيان إمامته للشيعة من قبل الإمام الرضا، فكان البرهان الذي يزيل كل شك وشبهة حول إمامته بأسلوب المحاورة والمناظرة. قال الراوي: قلت لأبي جعفر الثاني: إنهم يقولون في حداثة سنك، فقال: إن الله تعالى أوحى إلى داوود أن يستخلف سليمان وهو صبي يرعى الغنم، فأنكر ذلك عبّاد بني إسرائيل وعلماؤهم، فأوحى الله إلى داوود أن خذ عصي المتكلمين وخذ عصا سليمان واجعلها في بيت واختم عليها بخواتيم القوم؛ فإذا كان من الغد، فمن كانت عصاه قد أورقت وأثمرت، فهو الخليفة، فأخبرهم داوود فقالوا لقد رضينا وسلمنا (3).
ب- إثبات علمه: لقد تعرض الإمام لحملة إعلامية قاسية من أنه لا يفقه من الدين شيئاً، بسبب صغر سنه. ولذا، كانت المناظرات مع أكابر الفقهاء والعلماء تبرز مقامه العلمي الشامخ. يقول الإمام للراوي: إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة، فقال ﴿وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾، فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي، ويجوز أن يؤتاها وهو ابن أربعين سنة(4).
ج تعليم الشيعة وإرشادهم إلى الحق، وإيصال العلوم إليهم، وتبليغهم الأحكام بأسلوب المناظرات والإجابة عن الأسئلة. فقد روي أنه قد سئل في مجلس واحد ثلاثين ألف مسألة، فأجاب عليها كلها وله من العمر عشر سنوات(5).
د إن هزيمة فقهاء البلاط وعلمائه، لا سيما يحيى بن أكثم الذي يمثل السلطة الشرعية، حيث كان آنذاك قاضي القضاة، هي هزيمة للنظام الرسمي.
* صور من المناظرات
حوار مع المأمون:
عاد المأمون من أحد أسفار صيده وفي يده سمكة صغيرة. وهو في الطريق وجد مجموعة من الصبية يلعبون، فهربوا إلا واحداً منهم لم ينصرف، فلما دنا منه المأمون قال: ما في يدي؟ فقال له: إن الله تبارك وتعالى خلق بمشيئته في بحر قدرته سمكاً صغاراً ترتفع مع الماء في الغيم، فتصيدها بزاة الملوك، فيختبرون بها سلالة النبوة. فقال المأمون: أنت ابن الرضا حقاً(6).
* مع قاضي القضاة بحضور الفقهاء والعلماء والفلاسفة:
عن الريان بن شبيب قال: لما أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل من أبي جعفر عليه السلام ، بلغ ذلك العباسيين، فغلظ عليهم واستنكروه وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الإمام الرضا عليه السلام . ولذا، اجتمع منهم فئة مع المأمون وأبدوا له اعتراضهم. ودار نقاش طويل بينهم إلى أن طلب المأمون أن يمتحنوه، حتى اتفقت كلمتهم على مناظرة قاضي القضاة في زمانه يحيى بن أكثم، على أن يسأله من الفقه عما لا يتمكن من الجواب عليه ووعدوه بأموال طائلة، ثم طلبوا من المأمون تعيين يوم الاجتماع، فأجابهم إلى ذلك، أقول: وهو يشبه إلى حد كبير اليوم الذي ضربه فرعون للسحرة وبعد أن استقر بهم المجلس، استأذن القاضي المأمون في توجيه السؤال إلى أبي جعفر. وبعد الإذن، استأذن أبا جعفر في توجيه السؤال إليه، فقال له الإمام عليه السلام : سل إن شئت. قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً؟ فقال أبو جعفر: قتله في حل أم في حرم؟ عالماً كان أم جاهلاً؟ قتله عمداً أم خطأ؟ حراً كان المحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطيور كان أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصراً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان الصيد أو في النهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟ فتحير قاضي القضاة وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج، حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره(7).
* مع قاتله:
روى العياش عن زرقان صاحب ابن أبي داوود قال: رجع ابن أبي داوود ذات يوم من عند المعتصم وهو مغموم، فقلت له في ذاك، قال: لما كان اليوم من هذا الأسود أبي جعفر الجواد بين يدي (أمير المؤمنين). فبعد أن جمع الفقهاء وقد أحضر محمد بن علي، فسألنا عن القطع في يد السارق، فمن أي موضع؟ فقلت: من الكرسوع قال: وما الحجة في ذلك؟ قلت: لأن اليد من الأصابع إلى الكرسوع، لقوله في التيمم ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ﴾. واتفق معي على ذلك جماعة، وقال آخرون بل يجب القطع من المرفق، لأن الله تعالى يقول في الوضوء ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾، فدل على أن اليد إلى المرافق، فالتفت المعتصم إلى محمد بن علي، وقال: ما تقول يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلم فيه يا أمير المؤمنين، قال دعني مما تكلما به أي شيء عندك؟ قال: اعفني عن هذا، قال: أقسمت عليك بالله تعالى لما أخبرت بما عندك فيه، فقال: أما إذا أقسمت علي بالله، إني أقول إنهم أخطأوا فيه، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع ويترك الكف. فقال ما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وآله السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين. فإذا قطعت يده من الكرسوع، لم يبق له يد يسجد عليها، وقد قال تعالى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ﴾، يعني بهذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها، وما كان لله لم يقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف. قال ابن أبي داوود: قامت قيامتي وتمنيت أني لم أكن حياً، قال: ثم صرت إلى المعتصم بعد ثلاث وقلت: إن نصيحة أمير المؤمنين واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أني أدخل النار منه، قال وما هو؟ قلت إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر وقع من أمور الدين وسألهم عن رأيهم فيه فأخبروه بما عندهم، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقواده ووزراؤه وكتّابه، وقد تسامع الناس من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ويدّعون أنه أولى منه بمقامه ثم يحكّم حكمه دون حكم الفقهاء، قال: فتغير لونه وتنبه بما تنبه له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً، ثم أمر أحد كتابه في اليوم الرابع أن يدعو الإمام الجواد إلى منزله، فدعاه، فأبى أن يجيبه، وقال: قد علمتَ أني لا أحضر مجالسكم، فقال إنما دعوك إلى الطعام ...، ثم دس له السم، فاستشهد عليه السلام وذلك آخر شهر ذي القعدة سنة 220هجرية (8).
(1) الكافي، ج1، ص 321.
(2) عن مستدرك عوالم العلوم، ج23، ص15-1 152.
(3) أصول الكافي، ج1، ص 314.
(4) المصدر السابق.
(5) نور الأبصار في موالاة الأئمة الأطهار، الأعلمي، ص307.
(6) نور الأبصار في موالاة الأئمة الأطهار، الأعلمي، ص 308.
(7) بحار الأنوار، ج5، ص 76-77، تذكرة الخواص، ص 368-372. تحف العقول، ص 335، الأئمة الإثنا عشر، ص 222، عادل أديب.
(8) نور الأبصار، ص 312.