نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

إن كنت حراً فكن مسؤولاً!

الشيخ محمد حسن زراقط

 



خلق الله الإنسان حراً، وأراد له أن يتكامل على ضوء حريته الممنوحة له من قبله سبحانه وتعالى. وهذه الحرية التي يتمتع بها الإنسان ليست قضية تشريع فحسب، وإنما هي قبل ذلك كله جزء أصيل يدخل في تكوين المخلوق الذي فضله الله على كثير ممن خلق: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الإسراء). وتعتبر الحرية أحد أوجه التفضيل الإلهي للإنسان على غيره من مخلوقات الله عز وجل. ويتجلى هذا التفضيل بالحرية في عرضه سبحانه على الإنسان في أحد عوالم الخلق ومراحله، أمانته التي أشفقت السموات والأرض منها وحملها الإنسان فكان ما كان منه تقصيراً أحياناً وقياماً بأعباء المسؤولية أحياناً أخرى، يقول سبحانه في كتابه الكريم: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب). وتكشف هاتان الآيتان اللتان افتتحنا بهما مقالتنا هذه عن أمرين واضحين لا لبس فيهما، أولهما الحرية، وثانيهما التكريم الإلهي للإنسان. وما ندعيه هو وجود التلازم الضروري بين الحرية والتكريم، ثم بين الحرية والمسؤولية. وهذا ما سوف نعالجه في ما يأتي من هذه المقالة.

* التلازم بين الحرية والتكريم:
لا شكّ في أنّ الخلق نعمة إلهيّة على المخلوقات، ولا يمكن أن يخلق الله ما لا يحب. ومن هنا، قال الفلاسفة: إنّ ساحة الخلق والوجود لا تتّسع للشرّ، فكلّ ما خلقه الله هو خير؛ إما للمخلوق نفسه، وإما لغيره من المخلوقات. وبالتالي لا محلّ في هذا الوجود لما يكره اللهُ وجودَه. وما أجمل ما قيل: "أعشق كلّ ما في الوجود؛ لأنّه من فيض جودك ومنسوبٌ إليك". ورغم ذلك، فإنّ المخلوقات التي منّ الله عليها بالوجود تتفاوت قدراً وقيمةً. وهذا ما تكشف عنه إحدى الآيتين المدرجتين أعلاه. ولتفاضل الموجودات أسباب عدّة ربّما يحسن البحث عنها بالتفصيل في محلّ آخر، ولكن في ما يرتبط بموضوع مقالتنا، فإنّ سبب التفضيل الإلهي للإنسان يرجع إلى الحريّة التي منحها الله له. وبناء عليه يمكن القول إن الحرية التي منحت للإنسان هي التي تكشف عن تكريمه. وتفصيل ذلك أن أصل الحرية أمر مشترك بين الإنسان وبين غيره أيضاً، فكما أن الإنسان يشارك سائر الكائنات الحية في كثير من خصائصها، فإن عدداً من الكائنات الحية يشبه الإنسان في قدرته على الحركة والتصرف ضمن إطار معيّن ووفق ضوابط محددة. ولكن ما يميز الحرية الإنسانية عن الحرية الممنوحة لسائر المخلوقات المشاركة لإنسان في هذه الصفة، أمران هما: مقدار الحرية، وتبعاتها أي المسؤولية المترتبة عليها. وهنا نصل إلى المعيار الثاني وربما الأساس في التكريم الإلهي للإنسان.

* الحرية والمسؤوليّة:
لا تكتمل صورة الحرية وكونها نعمة إلا إذا لاحظنا ما يرتبط بها من أطر وضوابط ومعايير. فالحرية التي لا تتمتع بالضوابط والمعايير ليست حرية أبداً وإنما هي فوضى لا أفق لها. ويجب أن يوضع لهذه الحرية غايات ونهايات. فالحرية هي حرية في شيء ومن أجل غاية. ومن هنا يأخذ السيد محمد باقر الصدر على الفكر الغربي الذي اعتبر الحرية مثلاً أعلى، أنهم وقعوا في تعميم خاطئ لمفهوم الحرية؛ حيث يقول: "... إن الحرية بمعنى كسر القيود عن الإنسان، هو قيمة من القيم هذا إطار للقيم، ولكن هذا وحده لا يصنع الإنسان... أنت لا تستطيع أن تصنع الإنسان بأن تكسر عنه القيود وتقول له افعل ما شئت... هذا وحده لا يكفي، فإن كسر القيود إنما يشكل الإطار للتنمية البشرية الصالحة، يحتاج هذا إلى مضمون إلى محتوى، فمجرّد أنه يستطيع أن يتصرّف، يستطيع أن يمشي في الأسواق، هذا لا يكفي، أما كيف يمشي وما هو الهدف الذي من أجله يمشي في الأسواق أي المحتوى والمضمون فهما ما فاتا الإنسان الأوروبي. الإنسان الأوروبي جعل الحرية هدفاً وهذا صحيح؛ ولكنّه صيّر من هذا الهدف مثلاً أعلى بينما هذا الهدف ليس إلا إطاراً في الحقيقة وهذا الإطار بحاجة إلى محتوى وإلى مضمون... وإذا جُرِّد هذا الإطار عن محتواه سوف يؤدّي إلى الويل والدمار، إلى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربيّة اليوم التي صنعت للبشريّة كلّ وسائل الدمار؛ لأن الإطار بقي بلا محتوى، بقي بلا مضمون..."(1) إذاً، ما يعطي الحرية معناها هو ما يلحق بها وينظم حدودها وأطرها.

* حدود الحرية:
عندما نرجع إلى الدين الإسلامي، نجد أنه يربط بشكل مباشر بين الحرية وبين المسؤولية التي تلازم الحرية ولا تنفك عنها بأي شكل من الأشكال. ومن أهم الضوابط التي جعلها الله للحرية ما يأتي:

* الحق:
لقد أعطى الله للإنسان حرية اختيار الدين ولم يجبره على اختيار الدين مع قدرته على ذلك، ويدلّ على ذلك عدد من الآيات منها: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(البقرة) ومنها قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية) إلى غير ذلك من الآيات. ولكن رغم ذلك، لا يعني هذا الموقف الديني المبدئي من حرية اختيار الدين التفويضَ المطلقَ للتدين بأي دين، بل إن الله يلزم الإنسان بالتأمل والتدبر للوصول إلى الدين الحق. ومن هنا، نجد أنه أرسل آلاف الأنبياء لهداية البشر إلى الدين الحق واختياره والتعبد به شرط أن يكون هذا الإيمان مبنياً على الاختيار الحر.

* العقل:
المعيار الثاني الذي يقيد الحرية هو معيار العقل وقوانينه التي خلقها الله فيه وأقرّه وأقام أركانه عليها. وبين العقل والحرية تلازم لا يمكن غض النظر عنه، فالعقل من جهة هو ركن من أركان الحرية وأفق من الآفاق التي تفتح في وجه الإنسان خيارات جديدة ما كان ليتوصل إليها لولا إعمال العقل والاستفادة منه في ابتكار الحلول وتجربتها. إنه من خلال العقل قادر على فتح آفاق جديدة ما كانت لتفتح لولا هذه النعمة التي حباه الله بها، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن العقل نفسه يتحول إلى حد يقيد حرية الإنسان. ومن هنا نلاحظ أن القرآن الكريم يعترض على الذين تجاوزوا حدود العقل في اختياراتهم ويؤنبهم على عدم وقوفهم عند الإشارات والعلائم التي يرسمها العقل أمامهم وينير لهم دروب الاختيار المسؤول، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف) فمشكلة هذه الطائفة من الناس أنهم استعملوا حريتهم في الاختيار بعيداً عن ضوابط العقل وإرشاداته.

* الكرامة الإنسانيّة:
القيد الثالث الذي يقيّد الحرية الإنسانية هو الكرامة الإنسانية. فالإنسان لم يحصل على كرامته من تشريع قانوني يمكن أن يُرفع أو ينسخ بتشريع آخر، وإنما حصل على هذه الكرامة بمقتضى الخلق الإلهي، كما تقدمت الإشارة إليه. ومن هنا، لا يمكن لأي جهة في العالم مهما علا شأنها أن تجرد الإنسان من كرامته التي منحه الله إياها. وعلى ضوء ذلك، لا يجوز للإنسان أن يمارس حريته إلا تحت سقف هذه الكرامة وضمن معاييرها. وبهذا المعيار الأخير، يمكن أن نفسر كل القيود التي فرضها الله على حرية الإنسان. فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ فوّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوِّض إليه أن يذلّ نفسه، أما تسمع لقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون: )؟ فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً، ولا يكون ذليلاً يعزه الله بالإيمان والإسلام"(2). ربما كانت هذه الحدود هي أهم الحدود التي تقيِّد الحرية وتضيق أطرها. وبالتالي، نختم بالقول إن الحرية تفقد معناها ما لم تقترن بالمسؤولية عن ما يقوم به الإنسان في حياته. وما يميز الدين بشكل عام والدين الإسلامي بشكل خاص، عن غيره من المذاهب والأفكار والتيارات، هو أخذه لما بعد هذه الحياة الدنيا بعين النظر والاعتبار. ومن هنا، فإن كثيراً من القيود التي تضبط الحرية تعود إلى المصالح والمفاسد التي تترتب على الأفعال في العالم الآخر الذي هو عالم حصاد النتائج ومتابعة السير في دروب الكمال والتعالي.


(1) السيد محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، لا.ط، لا.تا، بيروت، دار التعارف.
(2) الحر العاملي، وسائل الشيعة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع