الشهيد مرتضى مطهري قدس سره
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم".(1)
كثيرٌ مِنَ الناس يرغب في التحلّل من الحقوق والواجبات الملقاة على عاتقه باسم الحرية. ومن الطبيعي أن يحب الإنسان ذلك، بل من الواجب أن يعيش الإنسان حرّاً في حياته شرط أن يفعل ذلك في الحدود التي تحفظ له إنسانيّته.
*شرط إنسانية الإنسان
إنّ الإنسان حرّ من كلّ القيود ومن كل شيء إلّا من قيد الإنسانية. أمّا أن يتحلّل من كل القيود ومن كل الحقوق والواجبات ويعتبر نفسه حرّاً تجاه كل شيء، فعليه أولاً أن يتخلّى عن إنسانيّته ويعتبر نفسه جماداً أو نباتاً أو حيواناً على أقل تقدير، ذلك أن شرط الإنسانيّة هو قبول المسؤولية تجاه الواجب والحق.
قال تعالى في قرآنه الكريم: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72).
تبيّن هذه الآية الكريمة بأسلوب رائع مدى الاستعداد الاستثنائي للإنسان، إذْ أشفقت السماء والأرض والجبال من حمل الأمانة الإلهية، وتراجعت، في حين تقدّم الإنسان إلى حملها. ولم تكن الأمانة التي تراجع الجميع عن حملها، وانبرى الإنسان إليها، إلّا التكليف والمسؤولية.
إنّ كل موجود يتحرّك نحو الكمال إنما يفعل ذلك دون إرادة منه أو اختيار. إنه يطوي طريقه ذلك دون أن يتمكّن من تغيير مساره أو هدفه. ولكن الإنسان الذي يرقى في طريق الكمال إنما يفعل ذلك انطلاقاً من التكليف والمسؤولية، ولذا فإنّ من دواعي الفخر لهذا المخلوق أن ينهض للواجب بإرادته.
*لأننا أرقى.. علينا واجبات
ولأننا بشر، وباعتبارنا أرقى المخلوقات، وأن لدينا حقوقاً وامتيازات في استثمار الأرض، والبحار، والغابات وما فيها من نبات وحيوان، فإن هناك واجبات مترتبة، علينا أداؤها. فقطعة الأرض التي تملكها، مثلاً، لها حق عليك وهو أن لا تُترك بواراً أو خراباً، فإما أن تستثمرها بالزراعة أو تعمرها بالبناء، وبهذا تؤدّي حقها. وكذلك ما تملكه من ماشية كالخيل والغنم والأبقار والإبل والحمير والبغال. فكما أنك تستفيد منها في التنقل أو تستثمرها لأداء بعض الأعمال، أو تستفيد من لبنها وصوفها ووبرها، فإنّك أيضاً مسؤول عن رعايتها وإطعامها وإيوائها. كما أنّ من يتصدّى لولاية مدينة أو إقليم من الأقاليم ويكون أمره مطاعاً، عليه أن يعلم بأنّ هناك مسؤولية ملقاة على عاتقه في توفير الأمن والاستقرار في حدود مدينته أو إقليمه أو بلاده.
فإنّ من يملك زهرة يستمتع بعطرها الفواح أو بمنظرها الجذاب تقع عليه مسؤولية سقايتها والمحافظة على طراوتها.
*مسؤوليتنا كبرى
إذاً، فإنّ الإنسان بما يملكه من استعداد ولياقة فطريّة تجعل له حقاً في استثمار ما سخّر له من مخلوقات الله، عليه مسؤوليةٌ كبرى تجاه هذه المخلوقات ابتداءً من الجمادات، والنباتات، والحيوانات، وحتى أفراد نوعه كمسؤوليته تجاه والديه أو ذريّته أو زوجه أو قومه أو معلّميه وجيرانه.
يوصي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مالكاً الأشتر قائلاً: "وأشْعِر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم واللطف بهم ولا تكوننّ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"(2).
إننا كثيراً ما نتحدث أو نسمع عن "الحق" و"الحقيقة" ولذا ينبغي أن نعرف الحق وأن ندرك الحقيقة.
إن إدراك الحقيقة يتم بمعرفة نظام الوجود وأن نعرف مسار العالم كما هو، لا كما نتصوره في الذهن من خيالات وأوهام بعيدة كل البعد عن عالم الحقيقة، وأن نعرف أنفسنا كما نحن، وأن نعرف الله بصفات كماله وجماله وجلاله.
*أهلٌ للحقّ والحقيقة
وأما معرفة الحق فهي في معرفة الدّين الذي بذمّتنا، وأن نعرف أيضاًجوارحنا فنؤدّي حقها، وحقوق آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وأولادنا ومعلمينا وجيراننا، وأن نعرف حق أقربائنا ومواطنينا، وحتى حق الأرض التي بحوزتنا أو المقام والمركز الاجتماعي الذي توفّر لدينا.
فإذا عرفنا أنفسنا وعرفنا ربّنا والعالم الذين نعيش فيه، وإذا عرفنا ما علينا من حقوق، عندها سنتمكن من الادعاء بأنّنا أهل للحق وأهل للحقيقة.
1.نهج البلاغة، الخطبة 167.
2.م.ن، كتاب 53.