تحدّثنا في العدد السابق عن جهود فكريّة، ثقافيّة
وإعلاميّة مركّزة -تأتي في سياق الحرب الناعمة- كان هدفها قتل روح الجماعة لتتصاعد
تدريجيّاً، فيشعر كلّ إنسان أنّه مسؤول عمّا يجري في بلده فقط، في طائفته.. في
منطقته.. وصولاً إلى عائلته، لتصل في نهاية المطاف ليشعر أنّه مسؤول عن نفسه فقط،
فلا يهتمّ بما يصيب غيره من سوء... وعرضنا كيف أنّ الفطرة الإنسانيّة والعقل يرفضان
هذا المبدأ. ونكمل الحديث، في هذا العدد، من خلال عرض رأي الدين في هذا الموضوع.
*الدين مع العقل والفطرة
نجد، على المستوى الديني، أنّ الأمر من أوضح الواضحات الدينيّة والإسلاميّة. ولكن،
لأنّنا في زمن التضليل والتزوير والتجهيل وصل الأمر إلى إقحام الدين والإسلام، وإلى
استخدام المصطلحات الإسلاميّة لتقديم هذه الفكرة. وعلى الرغم من وضوحها فإننا
سنتكلّم قليلاً على المستوى الدينيّ:
أوّلاً: الإسلام هو دين العقل والفطرة، وسبق أن تحدّثنا عن العقل والفطرة
(في العدد السابق).
ثانياً: سيرة الأنبياء عليهم السلام وأوصياء الأنبياء والرجال الصالحين عبر
التاريخ، وجميعهم كانوا يتحمّلون المسؤوليّات تُجاه الناس. فجاهدوا وضحّوا من أجل
إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وكم عملوا لكي يقيموا العدل في الأرض. هذا شأن
عامّ، وهذه المسؤوليّة العامّة هي جزء مكوّن من مكوّنات الدين، والهويّة الدينيّة.
*خطاب القرآن "يا أيّها الناس"
وعندما نأتي للقرآن الكريم، ولسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآل الرسول
عليهم السلام، نجد أنّ الاهتمام بالشأن العامّ من أوضح الواضحات. ففي القرآن أو
السنّة، بالأدبيّات الموجودة، لدينا عبارة "المسلمون"، "المؤمنون"، "الذين آمنوا"،
"يا أيها الناس"، يعني المخاطَب هو الناس، خلق الله، عيال الله، عباد الله.
من الواضح، أنّ الإسلام هو دين من جملة مكوّناته الحقيقيّة أنْ يتحمّل أتباعه
المسؤوليّات العامّة تُجاه الناس وتُجاه المسلمين. مثلاً: مسؤوليّة هداية الناس إلى
الحقّ، ونُصرة المظلومين، وإغاثة الملهوفين، وكلّ ما يرتبط بحياة الناس وخيرهم
وصلاحهم، وبسلامتهم في الدنيا وفي الآخرة.
*هذا ديننا وهذا إسلامنا
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين
فليس بمسلم"(1).
أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الخلق عيال الله فأحبّ الخلق إلى
الله مَن نَفَع عيال الله. سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من أحبّ
الناس إلى الله؟ قال: أنفع الناس للناس"(2).
إنّ المؤمن لتَرد عليه الحاجة (مثلاً) لأخيه، ولا تكون عنده، يريد مالاً وليس لدى
أخيه المال، يريد حلّاً لمشكلته، وليس بقادر على ذلك... إلى آخره. ولكن يهتمّ بها
قلبه، يفكّر في الليل والنهار، يحمل همّ أخيه، فيدخله الله تبارك وتعالى بسبب همّه
هذا إلى الجنّة.
إنَّ هؤلاء المستكبرين جماعة الحرب الناعمة، وخدم شياطين الجنّ والإنس، يريدون
حرماننا من أن نهتمّ بأمور المسلمين والمؤمنين وبأمور المستضعفين. هم يريدون أن
يحرمونا من طريق الجنّة.
يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن:
﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ
أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ
نَصِيرًا﴾ (النساء: 75).
إذاً، نجد في الخطاب الدينيّ والإسلاميّ مسؤوليات عامّة، يجب أن نتحمّلها وأن ننتبه
للتضليل والتزوير الذي لا يمتّ إلى العقل بصلة، ولا إلى الفطرة البشريّة
الإنسانيّة، ولا إلى الله وأنبيائه.
*شروط المسؤوليّة العامّة
علينا أن نضع هذه المسؤولية العامّة أيضاً ضمن ضوابطها، وأن لا نذهب إلى الإفراط أو
التفريط. إذ توجد مجموعة قواعد تتحكّم بتحديد التكليف الشرعيّ، فإذا كان لديّ
مسؤوليّة، فما هي؟ وما هي قواعدها؟
سأكتفي هنا بالحديث عن قاعدتين، القاعدة الأولى: شرط القدرة، والقاعدة الثانية:
تقديم الأهمّ على المهمّ.
1 - شرط القدرة:
أي أنّ الله لا يكلّف نفساً إلّا وسعها. وهذا شرط عقليّ؛ فلا يحمّل الله أحداً
مسؤوليةً تفوق طاقته. والقدرة هنا هي شرط في التكليف.
في التطبيق، فقد كلّفنا الله سبحانه وتعالى بمقدار ما نقدر عليه. والقدرة متفاوتة
بين الأشخاص، وبين الجماعات، وبين الشعوب أيضاً. وبتفاوتها يختلف التكليف من شخص
لآخر. ومن الممكن أيضاً أن لا يكون التكليف واحداً للجميع. مثلاً، إذا كان المُكلّف
مريضاً لا يقدر على القيام بأي عمل، وليس لديه المال... ما تكليفه إذا علم بوقوع
بلاء على إنسان أو أكثر؟ قد يكفي منه التألّم لألم هؤلاء، والتحدّث عن قصصهم مع
ضيوفه، وهو قادر على الدعاء لهم فقط. هذه قدرته، وهذا تكليفه.
أمّا شخص آخر، يملك المال، فهو قادر على المساعدة الماليّة مثلاً. التكليف إذاً،
يتفاوت بتفاوت القدرة في الأفراد والجماعات... ما يحتاج إلى الدقّة، بحيث يكون
تشخيص التكليف دقيقاً، ومعرفة القدرة والإمكانية دقيقةً أيضاً.
لذا، تحتاج القضايا الكبرى إلى القيادات العارفة، الأمينة، الموثوقة، الصادقة،
المخلصة، التي لا تتهرّب من المسؤولية؛ لأنّ عليها أن تحدّد وجود القدرة أو عدمها،
وعلى ضوء ذلك يتحدّد التكليف.
2 - شرط تقديم الأهمّ على المهمّ:
ننتقل إلى القاعدة الثانية، وهي النظر في الأعمال وتقديم الأهمّ على المهمّ، فيختار
الأهمّ ليقوم بالعمل. هذا ما يسمّونه بمصطلح "التزاحم".
المسألة هنا خاضعة للتطبيق أيضاً، فقد يخطئ الشخص أو يتعمّد أن يخطئ في تشخيص
الأهمّ فالأهمّ؛ لكي يتهرَّب من تحمّل المسؤوليّة. فأحياناً الشغل على الأهمّ شاقّ
ومتعب وفيه تضحيات، فيختار الأقل أهميّة. هنا تتأكّد الحاجة أيضاً، في الشأن
العامّ، إلى القيادات العارفة، الأمينة، المخلصة، الشجاعة، التي لا تتهرّب من
المسؤوليّة.
نحن إذاً، لدينا مسؤوليّات تُجاه الوضع العامّ، ولدينا مسؤوليّات متفاوتة في
المبدأ، أيضاً.
*أهمّ المصاديق
إنّ من أهمّ المصاديق التاريخية، لتحمّل المسؤوليّة العامّة، مهما كانت الأخطار
والتضحيات، كان في كربلاء وما فعله الإمام الحسين عليه السلام. لقد كان الإمام عليه
السلام محترماً في الأمّة، وقادراً على البقاء في منزله، وكان يزور يوميّاً قبر
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويصلّي عنده، ويتكلّم مع الناس ويجيب عن أسئلتهم.
ولكن الإمام الحسين عليه السلام كمسلم وكإمام - كما قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا" - كانت لديه مسؤوليّة تُجاه
الإسلام كدين، وتُجاه المسلمين، هذا أوّلاً، أمّا ثانياً، تشخيص الأهمّ فالمهمّ،
فقد تبيّن الموضوع للحسين عليه السلام، أنّ وجود يزيد بن معاوية كحاكم للمسلمين،
يشكّل خطراً على الإسلام كدين، وعلى المسلمين. وواجبه أن يمشي بالنصيحة لعباد الله.
بالتالي أصبح الأهمّ، والأولويّة المطلقة هي مواجهة هذا الطاغية الذي يهدّد
الإسلام، لأنّه حاكم يريد أن يسقط "أشهد أن محمّداً رسول الله"، فأمويّته وجاهليّته
لا تتحمّل هذا الأذان. لذلك شخَّص الإمام الحسين عليه السلام أنّ هذه هي الأولويّة
المطلقة، فقام بحركته التي قام بها.
أمّا شرط القدرة، وعلاقتها بالهدف وتحقيقه، عندما نسأل: ما هو هدف الحسين عليه
السلام في كربلاء؟ فقد كان هدفه حفظ الإسلام، ومن جملة أهدافه إيقاظ الأُمّة وكشف
حقيقة هذا الحاكم، الذي لو حكم المسلمين لعشرات السنين، لحصلت كارثة دينيّة
وثقافيّة وتاريخيّة وعلى كل الصعد.
حسناً، هل يستطيع الإمام الحسين عليه السلام أن يحقّق هذه الأهداف من خلال قيامه؟
شخّص الإمام عليه السلام إمكانيّة ذلك بالشهادة، ولا يحتاج إلى مئة ألف مقاتل، ولا
يحتاج إلى وسائل إعلام.
فقد شخّص الإمام الحسين عليه السلام أنّه بدمه، بإخوانه وأبنائه وأصحابه، وبصوت
زينب كوسيلة إعلام واحدة على الأقلّ، يستطيع ويقدر أن يحفظ الإسلام، وأن يُسقط
يزيد، وأن يفضح هذا المشروع الجاهليّ الجديد الذي جاء ليقضي على الإسلام بلباس
الإسلام. لذلك، هنا تأتي الأمانة والمعرفة للقدرة وتشخيص الأولويات.
حسبنا في هذه الدنيا، في هذا العمر المتاح لنا، أن نؤدّي رسالتنا الإنسانيّة،
ومسؤوليّتنا الشرعيّة، وأن نقف بين يدي الله سبحانه وتعالى بريئي الذمّة، وقد
أدّينا حقّ العبودية له، حينئذٍ نكون جديرين بأن نحشر مع أنبياء الله وأوليائه، ومع
سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
(*) كلمة سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)، في الليلة الثالثة من محرم
16/10/2015م.
1- الوافي، الكاشاني، ج5، ص535.
2- م.ن، ص536.
الجزائر
ابراهيم
2016-02-23 01:00:04
حفظك الله سيدي و نصرك على أعداء الداخل و عربان الخميج العربي المتصهينين.