اعلم أن الوسوسة والشك والتزلزل والشرك وأشباهها من الخطرات الشيطانية والإلقاءات الإبليسية التي تُقذف في قلوب الناس. كما أن الطمأنينة واليقين والثبات والإخلاص وأمثالها من الإفاضات الرحمانية والإلقاءات الملكية. وتفصيل هذا الإجمال بصورة مختصرة هو: أن قلب الإنسان شيء لطيف متوسط بين نشأة المُلك ونشأة الملكوت، بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، وجهة منه نحو عالم الدنيا والمُلك، وبها يعمّر هذا العالم، ووجهة أخرى منه نحو عالم الآخرة والملكوت والغيب، وبها يعمّر عالم الآخرة والملكوت.
مخالفة لأحكام الشريعة:
إن الشاهد على أن هذه الوساوس والأعمال من ألعاب الشيطان وإلقاءات ذلك الملعون، وأنه لا يوجد لها دافع ديني وباعث إيماني، رغم زعم صاحبها أن دافعه أمر ديني، هو أن هذه الوساوس تخالف أحكام الشريعة وأخبار أهل بيت العصمة والطهارة. مثلاً: وردت في أحاديث متواترة عن طريق أهل بيت العصمة عليهم السلام، كيفية وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وأنها كانت غسلة واحدة. ومن ضروريات الفقه، إجزاء غَرفة واحدة للوجه، وغَرفة لغسل اليد اليمنى وغَرفة واحدة لغسل اليد اليسرى، وأما الإجزاء مع غَرفتين أو غسلتين لكل من الوجه واليد اليمنى واليسرى، فهو محل خلاف(1).
إن الذي يخالف النص المتواتر وإجماع العلماء، هل يجب أن نعدّ عمله من عمل الشيطان أو من طهارة النفس وتقواها؟ فإذا كانت هذه الوسوسة من جراء منتهى التقوى والاحتياط في الدين، فلماذا نجد الكثير من ذوي الوسوسة التي لا مبرر لها والجهلة المتنسكين، لا يحتاطون في مواضع يجب الاحتياط فيها أو يستحب؟ هل سمعت أحداً يعيش حالة الوسوسة في الشبهات المالية؟ مَن من الوسواسين دفع الزكاة والخمس مرات عديدة؟ وذهب إلى الحج لأداء الواجب مرات متكررة؟ وأعرض عن الطعام المشتبه؟ لماذا كانت أصالة الحلية في الأطعمة المشتبهة جارية وأصالة الطهارة في مشكوك النجاسة غير جارية؟ مع أنه في باب مشكوك الحلية من الراجح الاجتناب، وتدل على ذلك الأحاديث الشريفة مثل حديث التثليث(2) عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال وإنما الأمور ثلاثة: "أمر بيِّن رُشده فيُتّبع، وأمر بيِّن غَيّه فيُجتنب، وأمر مُشكل يُرد علمه إلى الله ورسوله" وفي باب الطهارة عكس ذلك "كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه نجس"(3).
الوسوسة من ثمار الجهل:
أليست هذه بمصيبة، حيث إن الإنسان يغفل سنين طويلة عن حضور القلب ومعالجة قلقه النفسي، ولا يتصدى لإصلاحه، ولا يعتبر ذلك حضور القلب شأناً من شؤون العبادة، ولا يتعلم كيفية تحصيله من علماء القلوب العرفاء ولا يلتزم به، ويشتغل بهذه الأباطيل التي تكون من الخنّاس اللعين(4) حسب نص الكتاب الكريم ومن عمل الشيطان(5) حسب تصريح الصادِقَين عليهما السلام بذلك، وإن العمل بها يوجب البطلان، كما ذكرتها فتاوى الفقهاء، لكنه يعتبر كل ذلك من شؤون الطهارة والقدسية؟. وقد تحدث الوسوسة أو تشتد من جرّاء أن جهلة مثل هذا الإنسان الوسواسي يطرون عليه ويعتبرون وسوسته من الفضائل، ويثنون على ديانته وقدسيته وتقواه، مع أن الوسوسة لا ترتبط بالديانة أبداً، بل هي مخالفة للدين ومن ثمار الجهل وعدم العلم. ولكنهم لمّا لم يبيّنوا له حقيقة الأمر، ولم يبتعدوا عنه ولم يؤنبوه، بل على العكس مدحوه وأثنوا عليه ، استمر في عمله الشنيع ، حتى بلغ نهايته، وجعل نفسه لعبة بيد الشيطان وجنوده، فأقصاه من ساحة قدس المقرّبين.
سبيل المعالجة:
اعلم أن معالجة هذه الآفة القلبية التي يُخشى منها أن تودي بالإنسان إلى الهلاك الأبدي والشقاء الدائم، كبقية الأمراض القلبية، يمكن أن تتم بواسطة العلم النافع والعمل بكل سهولة ويسر. ولكن يجب أن يشعر الإنسان بأنه سقيم، حتى يسعى في سبيل المعالجة. ولكن النقص يكمن في أن الشيطان قد يزيّن له الأمور على مستوى لا يرى فيه هذا المسكين نفسه مريضاً، وإنما الآخرون يرونه منحرفاً عن السبيل وغير مكترث للدين.
بالعلم والعمل:
أما المعالجة لهذه الآفة القلبية بواسطة العلم فتكون بالتفكر في هذه الأمور المذكورة، حيث يجدر بالإنسان أن تكون أعماله وأفعاله، نتيجة التفكر والتأمل، بأن يفكر في أن هذا العمل الذي يريد أن ينجزه، ويريد أن يجعله مرضياً لله تعالى، من أي مصدر يكون وممن يؤخذ حتى تكون كيفيته بهذا الشكل المخصوص؟
ومن الواضح أن العوام من الناس يأخذون من الفقهاء كيفية العمل، ومراجع التقليد يستنبطون من الكتاب والسنة القواعد الفقهية. وعندما نرجع إلى الفقهاء نسمع منهم القدح في عمل الوسواسي، ويرون بعض أعماله باطلاً. وعندما نرجع إلى الأحاديث الشريفة والكتاب الإلهي، نجد أن عمله يعتبر من الشيطان ويجعل صاحبه مجنوناً. إذاً، إن الإنسان العاقل إذا فكر وتدبر قليلاً قبل أن يهيمن الشيطان على عقله لأوجب على نفسه الإقلاع عن هذا العمل الفاسد، ولسعى في سبيل تصحيح عمله حتى يكون مرضياً عند الحق المتعال. ويجب على كل من يشك في حصول الوسوسة عنده، أن يكون مثل الناس العوام، في عرض عمله على العلماء والفقهاء، والإستفهام منهم بأنه هل ابتلي عمله بمرض الوسوسة أم لا؟ لأنه كثيراً ما يكون الإنسان الوسواسي غافلاً عن حاله ومعتقداً بأنه معتدل وأن الآخرين غير مكترثين للدين. ولكنه إذا فكر قليلاً، لوجد أن مصدر هذا الاعتقاد هو الشيطان وإلقاءاته الخبيثة، لأنه يرى بأن العلماء والفقهاء الكبار من الذين يؤمن بعلمهم وعملهم، يعملون بما يُغاير عمله. ولا يستطيع القول إن الملتزمين غالباً والعلماء والفقهاء لا يحفلون بدين الله وأن الإنسان الوسواسي وحده يتقيّد بالدين. وعندما أدرك ضرورة إصلاح العمل، دخل مرحلة العمل. والعمدة في هذه المرحلة عدم الاهتمام بالوساوس الشيطانية والأوهام التي تلقى عليه. فمثلاً إذا كان مجتهداً ومبتلىً بالوسوسة في الوضوء، فليتوضأ مع غَرفة واحدة رغم وسوسة الشيطان. وأجب الشيطان بأنني أعمل على ضوء فتوى المجتهد، فإذا كان وضوئي باطلاً، فلا يؤاخذني ربي عليه، ولا تكون عليّ حجته. وإذا أوقعك الشيطان الملعون في الشك قائلاً بأن المجتهد لم يقل هكذا فافتح رسالته العملية وتأكد من صحة العمل، فإذا لم تعبأ بإلقاءاته عدة مرات، وعملت على خلاف رأيه، لغدا آيساً منك. ونرجو أن تكون المعالجة النهائية لمرضك، كما ورد هذا المعنى في الأحاديث الشريفة : فعن الكافي بإسناده عن زرارة وأبي بصير قالا: "قلنا له: الرجل يشك كثيراً في صلاته حتى لا يدري كم صلى ولا ما بقي عليه. قال: يُعيد. قلنا له: فإنه يكثر عليه ذلك، كلما أعاد شك. قال: يمضي في شكه، ثم قال: لا تُعَوّدوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمعوه فإن الشيطان خبيث يَعتاد لِما عوِّد، فليَمض أحدكم في الوهم ولا يُكثرنّ نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك. قال زرارة: ثم قال: "إنما يريد الخبيث أن يُطاع، فإذا عُصي لم يَعد إلى أحدكم"(6).
ومن الوضوح بمكان أنك إذا خالفت الشيطان فترة من الزمان، ولم تُلقِ بالاً لوساوسه، لانقطع طمعه عنك، وعادت الطمأنينة والسكون إلى نفسك. ولكن في غضون أيام تصديك للشيطان، تضرّع إلى ساحة الحق المتعالي والتجئ إلى ذاته المقدسة من شر ذاك الملعون وشر النفس، واستعذ بالله منه وهو يعينك عليه، كما ورد في الكافي الأمر بالاستعاذة من الشيطان: بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، أشكو إليك ما ألقى من الوسوسة في صلاتي حتى لا أدري ما صلّيت من زيادة أو نقصان، فقال: إذا دخلت في صلاتك فاطعن فَخذِك الأيسر بإصبعك اليُمنى المسبحة ثم قل: "بسم الله وبالله، توكلت على الله، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم" فإنك تنحره وتطرده"(7). والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
(1) في الغسلة الثانية أقوال ثلاثة، أفتى معظم الفقهاء باستحبابها وذهب بعض إلى الجواز والثالث إلى عدم الجواز.
(2) وسائل الشيعة، المجلد ، الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي، ج.
(3) الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج، ص.
(4) إشارة إلى الآية و من سورة الناس "من شر الوسواس الخنّاس * الذي يوسوس في صدور الناس".
(5) في رواية عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام: "أنه من عمل الشيطان" (وسائل الشيعة، ج، كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، الباب ، ح).
(6) فروع الكافي، المجلد، كتاب الصلاة، باب من شك في صلاته، ح، ص و.
(7) فروع الكافي، المجلد ، كتاب الصلاة، باب من شك في صلاته، ح، ص.