الشيخ مصطفى قصير(*)
في الثقافة الشعبية نجد الأعمّ الأغلب من النّاس يربط بين السعادة والغنى وبين الفقر والشقاء، وهذا يتفرّع على فهم المراد من الفقر والغنى، وعلى تحديد معنى السّعادة الحقيقية والشقاء الحقيقي. من الطبيعي أن يسعى الإنسان للوصول إلى عوالم السعادة وأن يبتعد عن السّبل المؤدّية إلى عالم الشقاء، بقطع النظر عن صوابيّة الرؤية ودقّة التشخيص ومعرفة الموجبات الواقعيّة والسّبل المؤدّية فعلاً إلى أي من الاتّجاهات التي نطلبها أو نتوقّاها ونحذرها.
* تحرير المفهوم
الفَقْر: الحاجة، وفعلُه الافْتِقارُ، والنعت فَقِيرٌ. وهو ضد الغِنى. قال ابن السكيت: الفَقِيرُ الذي له بُلْغَةٌ من العيش، وقال ابن الأَعرابي: الفَقِيرُ الذي لا شيء له، قال: والمسكين مثله(1). وتؤخذ الحاجة تارة بمعنى نسبيّ يرتبط بالرغبة والحاجات الاعتبارية، كشعور الإنسان بالحاجة إلى ما يشبع شهواته وميوله ورغباته بقطع النظر عن مدى الاضطرار إليها وعدمه، ومدى توقف الحياة عليها، وانعكاسها على أهداف الخلقة والمصير النهائي للإنسان. كما أن الغنى كذلك يؤخذ بمعنى الاستغناء المطلق عن كل الموجودات وعدم الحاجة إليها، وقد يؤخذ بمعنى نسبي كالاستغناء عن الطلب وعن الكماليات وعن الكثير من الأشياء التي يطلبها الناس ويسعون إليها، أو الغنى بمعنى توفر الأشياء التي يرغب بها ويريدها. الشائع في الاستعمال العرفي الشعبي هو الفقر والغنى البشري المادي المتعلق بالحاجات المعيشية. وقد يفرّع الناس على ذلك تطبيق عنوان السعادة والشقاء، فيعتبرون أن توفّر سبل العيش الكريم ومتطلبات الرفاهية المعيشيّة يجسّد السعادة. وهذا يستبطن فهماً خاصاً لمعنى السعادة والشقاء، بربط المفهومين بإشباع الحاجات والرغبات المادّية والمعيشيّة، وتحقّق الرفاه والثروة، مع أن السعادة مسألة أخرى لها علاقة بالرضا والشعور بأن الأمور تجري بالاتجاه الذي يقرّب الإنسان من أهدافه وغاياته، فالمسألة مرتبطة بفهم الإنسان للأهداف والغايات التي يسير إليها وعليه تحقيقها، ومن هنا يبدأ الاختلاف في النظرة إلى الفقر والغنى وإلى السعادة والشقاء.
* غاية الإنسان من الدنيا تحدد وسيلة سعادته
ينبغي أن نميّز بين الغاية والوسيلة لكي لا نصبّ كلّ اهتمامنا على الوسائل والأدوات متخيّلين أنها غايات وأهداف. الإنسان لم يُخلق ليأكل ويتنعّم ويتلذّذ بالشهوات التي يستشعرها وحسب. المال الذي يعمل الناس من أجل كسبه والحصول عليه وجمعه وادخاره ليس سوى وسيلة للحصول على متطلّبات المعيشة. والمعيشة نفسها هي وسيلة لبلوغ غايات أخرى. فَهم هذه الغايات يحدّد للإنسان مسار حياته وأولوياته ويرتب خطواته بما ينسجم مع بلوغ المرام. فإذا نجح في ذلك شعر بالرضا والسعادة، حتى مع المعاناة الحياتية والصعوبات المعيشيّة، بل ربما وجد سعادته في الفقر، وتعامل مع البلاءات الدنيوية بالتسليم والرضا وعرف كيف يسخّر ذلك لتربية نفسه على التّسليم لأمر الله، والرضا بقضائه، ليصل إلى درجة الإحساس بلذة الجوع في رضا الله والاطمئنان في طريق طاعته.
* الوصف القرآني للشقي والسعيد
من اللافت أن النصوص القرآنية لا تتناول السعادة والشقاء إلا في الحياة الأخروية. وهذا يعني أن السعادة الحقيقية هي الفوز بالرضوان في دار الخلد وفي الحياة الحقيقية الدائمة، والشقاء الحقيقي أيضاً في تلك الدار عندما يلاقي الخاسر مصيره الجهنمي، ويفد على ربّه صفر اليدين ويعرّض نفسه لسخط المولى عزّ وجل. قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعيدٌ﴾ (هود: 105). ﴿وَأَمَّا الَّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ (هود: 108).
ويمكن لنا أن نعدّي السعادة والشقاء إلى الحياة الدنيا باعتبارها مزرعة الآخرة، ولأن السعادة الأخروية تظهر مقدماتها في معتقدات الإنسان وبصيرته وأعماله في الدنيا، وهذا يشعر الإنسان بالارتباط بخالقه وأنّه يقترب منه ويناجيه ويشعر بالطمأنينة في رحاب رحمته. روى عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا السَّعِيدُ مَنْ خَافَ الْعِقَابَ فَأَمِنَ وَرَجَا الثَّوَابَ فَأَحْسَنَ وَاشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ فَأَدْلَجَ"(2). وروي عن أبي عبد الله عليه السلام في جواب أسئلة الزنديق، ومنها أنه قَالَ: "فَمَا السَّعَادَةُ وَمَا الشَّقَاوَةُ؟ قَالَ عليه السلام: السَّعَادَةُ سَبَبُ خَيْرٍ تَمسَّكَ بِهِ السَّعِيدُ فَيَجُرَّهُ إِلَى النَّجَاةِ وَالشَّقَاوَةُ سَبَبُ خِذْلَانٍ تَمسَّكَ بِهِ الشَّقِيُّ فَجَرَّهُ إِلَى الْهَلَكَةِ وَكُلٌّ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى"(3).
* هل هناك تلازم بين الغنى والسعادة؟
حتى بالمقياس الدنيوي ومع غضّ النظر عن المعيار الأخروي للسعادة، فليس هناك من تلازم بين السعادة والغنى، وذلك للأسباب التالية:
1ـ الغنى لا يوصل الإنسان بالضرورة إلى الشعور بالرضا والاكتفاء. فكلّما بلغ مرتبة من مراتب الغنى ارتقى في الطلب إلى مرتبة أخرى، وصار همّه الوصول إلى تلك المرتبة. فعَنْ الإمام أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مِنَ الدُّنْيَا مَا يَكْفِيكَ فَإِنَّ أَيْسَرَ مَا فِيهَا يَكْفِيكَ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَا لَا يَكْفِيكَ فَإِنَّ كُلَّ مَا فِيهَا لَا يَكْفِيكَ"(4). ولذا كانت القناعة كنزاً لا يفنى ومن أهم مظاهر الغنى لأنها توفر للإنسان الرضا والشعور بالاكتفاء، قال أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "الْقَنَاعَةُ مَالٌ لَا يَنْفَدُ"(5). وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَوْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام أنَّه قَالَ: "مَنْ قَنِعَ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ"(6).
2ـ الغنى قد يوفر للإنسان جملة من حاجاته ومتطلبات معيشته، ولكن الغنى لا يمنح الإنسان كل ما يشعر بالحاجة إليه من الناحية المعنوية والعاطفية والروحية، ولا شك أن النقص في هذه الجوانب يوقع الإنسان في العديد من الهموم والغموم.
3ـ الغنى لا يضمن للإنسان حياة خالية من البلاءات الجسديّة والصحيّة التي إذا ابتلي بها فَقَد القدرة على الاستمتاع بملذات الدنيا، وتنغّص عيشه.
4ـ النّعم الوفيرة تحمّل الإنسان مسؤوليات بحسبها فمقابل كل نعمة تكليف، وربّما قصّر في القيام بالتّكليف وأداء حقّ النّعمة فتتحول إلى نقمة، وهذا باب من أبواب الشّقاء. فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام أنَّه قَالَ: "مَنْ رَضِيَ مِنَ اللَّهِ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْمَعَاشِ رَضِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعَمَلِ"(7).
* الموقف السليم
ينبغي للمؤمن أن يدرك أن الإنسان مخلوق للآخرة وليس للدنيا، وأنه في الدنيا يعيش في سفر، فليتعامل معها على أنها متاع مسافر يأخذ منها ما يحتاجه في سفره فقط ولا ينشغل بها عن مقصده، ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيه﴾ (الإنشقاق: 6)، ﴿وَما أُوتيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُون﴾ (القصص: 60). كما ينبغي للعاقل أن يربّي نفسه على القناعة والنظر إلى الحاجات الواقعية وعدم مقايسة حاله مع أحوال أهل النعم والأغنياء. عَنْ الإمام أَبي جَعْفَرٍ عليه السلام قال: "إِيَّاكَ أَنْ يَطْمَحَ بَصَرُكَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ فَكَفَى بِمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ﴾. وَقَالَ: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾. فَإِنْ دَخَلَكَ شَيْءٌ فَاذْكُرْ عَيْشَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله فَإِنَّمَا كَانَ قُوتُهُ الشَّعِيرَ وَحَلْوَاهُ التَّمْرَ وَوَقُودُهُ السَّعَفَ إِذَا وَجَدَهُ"(8).
ومن اتخذ من رسول الله صلى الله عليه وآله أسوة فقد رُوِيَ عَنه صلى الله عليه وآله أنه قال: "الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ"(9). وأنه كان يقَوْل: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِيناً وَأَمِتْنِي مِسْكِيناً وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ"(10). وهذا برسم كل من يتفاخر بالغنى والثراء، وكل من يتعالى على الفقراء والمساكين ويستهين بهم ويحتقرهم لفقرهم.
(*) المدير العام للمؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم.
(1) لسان العرب، ابن منظور، ج5، ص 60.
(2) مستدرك وسائل الشيعة، النوري، ج 11، ص 227.
(3) بحار الأنوار، المجلسي، ج 10، ص 183.
(4) الكافي، الكليني، ج 2، ص 138.
(5) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 4، ص 14، الحكمة 57.
(6) الكافي، م. س، ج 2، ص 139.
(7) بحار الأنوار، م. س، ج 66، ص 406.
(8) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 21، ص 530.
(9) بحار الأنوار، م. س، ج 69، ص 30.
(10) م. ن.