صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

أخلاق العاملين‏: الوظيفة الأساسية رعاية المحرومين والمؤمنين الضعفاء

آية الله جوادي الآملي‏


تحدثنا في البحث السابق عن ضرورة رعاية النظام بالنسبة للعاملين في الأجهزة الحكومية، وعن آثاره القيمة كما ورد عن لسان سياسي البشرية وولاتها الحقيقيين الأئمة الأطهار عليهم السلام، وتبين لنا خطورة الفوضى ومآسيها.

وما نريد أن نتحدث عنه اليوم هو أن الوظيفة الأساسية للعاملين في النظام الإسلامي هي رعاية أحوال المحرومين والمستضعفين. ففي الوقت الذي يجب على كل مسؤول أن يرى مقامه ومنصبه أمانة إلهية، وأن التساهل فيها والتهاون في الامتثال لمطالبها خيانة ورذيلة. وإن الجميع لهم الحق بعدله وإحسانه، فإنه عليه أن يعتني بشكل أكبر بالطبقة المحرومة ويقدمهم على غيرهم من المرفهين والمتنعمين بعدل الإسلام وقسطه.
فالنظام الإسلامي، وإن كان يمتلك عدالة واسعة وإحساناً شاملاً، لكنه يقدم البعض لأجل مواجهة المشاكل الكبرى على غيرهم. لأن هؤلاء يفتقدون للكثير من الإمكانات الحياتية الأولية التي لا غنى عنها. ويجب أن تعاد إليهم حقوقهم التي سلبها المتسلطون والناهبون.

فإذا لم يكن النظام هكذا، وإذا لم يفكر العاملون فيه هكذا، وإذا ساوى المسؤولون بين المحروم والمرفّه، ولم يسعوا لتعريف القوي المقتدر على حقوق المحرومين، ولم يأخذوا بأيدي الضعفاء المساكين ولم يحفظوا وجودهم، فإن هذا النظام لن تكتب له الحياة ولن يستمر.
فهذا عظيم العالم وقائد الإسلام علي بن أبي طالب عليه السلام يوصي مالك الأشتر في عهد إليه أن يجعل للمحتاجين مجلساً خاصاً يجلس معهم بدون أية أبهة أو تدابير عسكرية بل بالبساطة التامة والبشاشة بعيداً عن التصنع والمجاملة، فيستمع إلى مطالبهم ويسارع إلى تلبيتها، ثم يقول عليه السلام، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لن تقدّس أَمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع"1، فالأمة المقدسة هي التي تحترم حقوق الضعفاء، وتؤدي إليهم حقهم وتدين الظلم والتعدّي.

ورعاية المحرومين ليست بالترحم عليهم فقط، وتأمين حياتهم من بيت المال، لأن هذا العمل مساعدة عاطفية ملازمة للترحم دون الاحترام. أما حرمة المحرومين وكرامتهم فهي أن نرجع إليهم حقوقهم المهدورة. فإذا غُصب مالهم، أو أغير على مزارعهم وبساتينهم، أو لم يحصلوا على الخدمة المطلوبة، علينا أن نسترد حقوقهم بالتدخل ومتابعة محكمة العدل.
لهذا، فإن مسؤولية العاملين في الحكومة الإسلامية فيما يتعلق بتأمين حاجات المحرومين تنقسم إلى مرحلتين: المرحلة الأولى استرداد الحقوق المهدورة، والثانية تأمين احتياجاتهم من بيت المال. وهذه المرحلة الثانية بدورها هي أخذ حق الضعيف من القوي. فكما أن رفع الفقر والحرمان ضروري، فإن دفعه ومواجهته لازمة أيضاً.

إن العاملين مكلفون بتنمية أسباب وعوامل التكاثر (الإزدهار) ومنع أي شخص من التعدي على حقوق الأفراد أو المجتمع لبلوغ قمة الإزدهار المالي وجمع الثروة وترك الآخرين في وادي الفقر والفاقة بتضييع حقوقهم المسلّمة.
وهنا يطرح موضوع الاحتكار - الذي هو ضرر لا يحتمل يصيب الاقتصاد السالم. وهنا ينقل أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً حول مسؤولية العاملين في هذا المجال، فيقول: "فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكُرة بعد نهيك إياه فنكِّل به وعاقِبْه في غير إسراف"2.
ويكتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أهل مصر حين ولّى عليهم عامله مالك الأشتر النخعي قائلاً: "فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله لا ينام أَيام الخوف ولا ينكُلُ عن الأعداء ساعات الروع، أَشد على الفجاّر من حريق النار"3، ولاجتناب الاحتكار والحذر من مخاطره نستمع إلى حديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسأله: بماذا أشغل ابني وإلى أي عمل أدفعه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا تدفعنه إلى خصال، منها احتكار رزق الناس... ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ولأن يلقى الله العبدُ سارقاً أَحبّ إلى من أَن يلقاه قد احتكر طعاماً أَربعين يوماً"4.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون"5.
وقال: "لا يحتكر الطعام إلا خاطئ‏ "6.
"ونهى أمير المؤمنين عليه السلام عن الحكرة في الأمصار"7.
وملخص الكلام أن إحدى أسوأ الظواهر الاقتصادية هي الاحتكار.
ويستفاد من سيرة أئمة الدين بشكل واضح أنهم كانوا يحاربون هذه الظاهرة بقوة. وعلى أتباعهم أن يحاربوا المحتكرين، ويعالجوا الأضرار الناشئة عنه.

فعلى العاملين في الحكومة الإسلامية أن يسلكوا، فيما يرتبط بالمسائل الاقتصادية، طريقة تعمل على إزالة الحرمان، والقضاء على الفقر من خلال السعي للنظام الإسلامي الصحيح في الكسب الحلال والحر.
وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته"8.
ومن هنا، يجب الالتفات إلى عوامل الحرمان وإزالتها. ولا يكفي مساعدة الفقير ومواساته ورفع احتياجاته، بل ينبغي إزالة الفقر والقضاء عليه في المجتمع الإسلامي. وإجراء الخطط الاقتصادية التي تؤدي إلى القوة الاقتصادية وترفع الفقر والاحتياج عن الطبقة المحرومة.
وتحصيل هذه الفضيلة بدون التوكل على الله سبحانه، والاستناد إلى وعوده الغيبية لا يمكن أن يحدث. لأن الإنسان إذا صرف كل همّه لأجل تجميع الإمكانات المادية، فإن الله سبحانه سيسلط عليه الشعور الدائم بالفقر والاحتياج، فلا يرى أمامه إلا الفاقة والطلب. أما إذا صرف كل همّه لتحصيل رضا الله، ولم يبخل لأجل ذلك بأي سعي وجهد، فإن أعماله ستكلل دائماً بالنجاح وسوف يرى الغنى أمامه دائماً، ويبقى محفوظاً من الضغوط النفسية وتحير الخيال وانشغاله، لأن هذا الشخص يعلم أن الله سبحانه ينزل الأرزاق بقدر الحاجات، فإذا كان الأمر زائداً عن الاحتياج لا ينزّله. فالمؤمن الواقعي هو الذي يعيش مطمئناً مرتاحاً نتيجة هذا الشعور.
قال أبو جعفر عليه السلام: "المعونة تنزل من السماء على قدر المؤونة"9.

فأفضل الطرق لمحاربة المفاسد الاقتصادية والنقائص المالية هو تهذيب النفس وتربية الروح في بعدها المعنوي. فالإنسان يمكن أن يعيش في كمال العزة بالكسب الحلال الحر بدون التعدي على حريم الآخرين. لأن الله تعالى قد وعد العاملين بتأمين معيشتهم، والله لا يخلف وعده، فالإنسان سواء كان عاملاً في سبيل الله أو محترفاً حراً، ليس مكلفاً بالعمل أكثر من طاقته والبقية على الله، في قضائه وقدره.
وعندما سأل سدير الصيرفي الإمام الصادق عليه السلام عن ما ينبغي أن يبذله المرء في تحصيل معاشه. قال عليه السلام: يا سدير! لو فتحت باب دكانك وفرشت بساطك، فقد أدّيت ما عليك.
وقال عليه السلام إن الله قد جعل أرزاق المؤمنين في طرق لا يتصورونها، وذلك أن العبدَ إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه.
فالمؤمن مكلف بالاعتماد على الطرق الغيبية وانتظار ما لا يُتوقع أكثر من انتظار المتوقع. قال علي بن أبي طالب عليه السلام: "كن لما لا ترجو أَرجى منك لما ترجو، فإن موسى بن عمران عليه السلام خرج يقتبس لأهله ناراً فكلّمه الله عز وجل ورجع نبياً وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان عليه السلام وخرج سحرة فرعون يطلبون العزة لفرعون فرجعوا مؤمنين".
وقال رجل لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: عدني. قال عليه السلام: "كيف أَعدك وأَنا لما لا أَرجو أَرجى مني لما أَرجو"10..

وما ينبغي الالتفات إليه هو أن ما ذكر لا يختص بأصحاب الأعمال الحرة، بل يشمل جميع المؤمنين بالله، وبالأخص أولئك العاملين في الحكومة الإسلامية. وأصل جميع هذه الأبحاث في القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه: ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار (النور - 37).
فالفرق ما بين التجارة والبيع، هو نفس الفرق ما بين الحرفة والعمل المؤقت الخارجي، فلا أصل العمل وحرفة التجارة تلهيهم، ولا الشراء والبيع المربح والعمل العيني. والفرق بين "ذكر الله" والصلاة والزكاة، اللذين هما من المصاديق البارزة والكاملة لذكر الله، هو أن "ذكر الله" علامة على استمرار التوجه إلى الله ودوام الارتباط القلبي بالله سبحانه، أما الصلاة والصوم فهي أذكار خارجية مؤقتة وأعمال عينية، وهي تعادل "التجارة والبيع".
بناء على هذا، لا يوجد أية حرفة، سواء كانت حرة أم حكومية، يمكن أن تجعل الإنسان المؤمن غافلاً عن ذكر الله سبحانه، وهذا النور الباطني هو الأقدر من غيره على حمل الإنسان على رعاية العقل والنظام والعدل والأمانة.

نسأل الله تعالى ببركة القررٌّ الكريم أن ينصر الإسلام وجنده.
وأن يجعل قلوبنا خزائن معارفه وأسرار أوليائه.
وأن يحشر شهداء الإسلام مع الأنبياء والأولياء.
وأن يمد قائد الثورة الإسلامية والأمة الإسلامية في ظل ولي العصر أرواحنا فداه.
وأن ينشر رحمته على المعلمين والمؤلفين للعلوم الإلهية.
والحمد لله رب العالمين.


1 نهج البلاغة الكتاب 53.
2 نهج البلاغة الكتاب 53.
3 نهج البلاغة الكتاب 38.
4 من لا يحضره الفقيه ج‏3.
5-6-7 من لا يحضره الفقيه ج‏3.
8 الإمام علي صوت العدالة الإنسانية.
9 من لا يحضره الفقيه ج‏3.
10 من لا يحضره الفقيه.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع