مريم عبد الله
جالت قطعةٌ من بشر منكسرة، ترقدُ تارةً على صخرة.. على
شاطئ مهجور ذي رمال مبعثرة، وقفت تلك العيون البريئة تتأمّل... ففي كلّ يوم مع خيوط
المغيب تبدأ تلك الحكاية، براءةٌ مسلوبةٌ وبُقع جسد طريّ باتت مكشوفة من بقايا
القماش الذي مضت عليه سنون كثيرة. وتلك الكفوف الصغيرة المُنمنمة، أكلها الدهر
وغطّاها بألوانٍ مُتَّسخة... باتت تلك اليدان مشلولتين، عاجزتين عن مسح تعبٍ غطّى
الوجه.
* أوجاع التشرّد
ينسحب آخر أشعة شمس خلف تلك التلّة، ويعاود الخوف زيارته إلى تلك القلوب... يبدأ
نسيمٌ باردٌ بالتمرُّد على الجسد الصغير، ليخترق الثّقوب التي تؤدّي إلى أنحائه،
تاركاً أبشع أنواع التعذيب من خوفٍ، وبردٍ، ويُتمٍ وتشرُّد.
ثم مع أوّل محاولةٍ له للخلود إلى نوم ينسيه قسوة نهار، تستفيق على جسده الصغير
أوجاع التشرُّد متسلّلة إلى أطرافه، إلى قدمين باردتين تشرّبتا من دماء الفقر،
كانتا تسيران خلال ساعات النهار بلا حذاءٍ يحميهما، فتسلّختا وتشوّهتا... كان يبحث
عن قطعـة خبــزٍ، لا ليشبع، بل ليعيش يوماً آخر.
كبرد الليل وجُوع النّهار، هو لا يَسلم من تعَدٍّ وابتزاز، وبات له منافسون في
الشوارع، ظنّاً منهم أنّها مهنةٌ تُكسب الأموال... وضاعت تلك الطفولة!!!
* ربيع دون ربيع
فاح ريح الربيع وتراقصت سنابل القمح الخضراء على أنغامٍ حزينة، بدأ يشتمّها وها هو
موسم الحصاد يقترب، ولكن لن يطال منها شيئاً، ستبقى عطراً من الطبيعة إلى أفواهٍ
اعتادت أن تشبع من منظرها.
يتابع حكم الحياة القاسي عليه، وحقوقه تُسلب منه كلّ يوم... بات يشبه تماماً حبّة
القمح التي تكون في آخر السنبلة، فمراراً تكون منسيّة وتموت مع فائدتها التي
تَهَاون فيها الكثير تماماً كذاك الجسد الصغير.
تتدلّى مناسباتٌ وأفراح كأنّها تعبث بمشاعر الطفولة الملقاة على قارعة الطريق،
تتغلغل الأحزان في صميمه وتسرق ما تبقّى من روح فرح، وهاك القطرة المالحة تنهمر على
الخدود الصغيرة، فلا تذكار سعادة، ولا حتّى كلمة تجبر الخاطر.
* آخر الحروف
سيكون يوميّاً على شاطئ الأمل أمام المغيب والشروق، سيمدُّ يديه الفقيرتين مِراراً
إلى أن يحنَّ عليه جنسٌ من آدم... لتنتشله ضمائر صاحية من تحت ركام الذلِّ والموت،
وتعطيه تذكرة للحياة مع أوّل قطارٍ مسافر إلى فرصته الأولى، ليكون إنساناً.
آه، كم أن الحديث يوجع! فما باله لو أصبح صورةً مجسَّدة! لو أننا كـ "هو" حُجِزنا
تحت ذنبٍ لم تقترفه أيدينا، ويُكتب بعدها الفقر علينا، الذي يهرب منه الكثيرون ولا
يُعطون أنفسهم بُرهةً للسؤال: "ما ذنب هذه الرُّوح؟!".
تستلقي آخر الحروف من تلك الكلمات المكتوبة، فهي لا بدَّ لها من وضع الخاتمة،
لكنّها في كلّ مرّة تجد خيبتها، إن قرّرت البوح عن قضيَّة فقير. هنا تفعل الأنانية
فعلتها. هنا يختفي صوت الضمير. هنا تبقى الطفولة أسيرة لتمرّد بشر.