الشيخ إبراهيم السباعي
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ (النور: 36-37).
هو المسجد (أو الجامع)، بيت الله الذي شرَّعه وعيّنه لعباده، وأمرهم بالصلاة له فيه. وقد استمدّ مكانته من إضافته إلى الله سبحانه وتعالى؛ فيه يُستبان الولاء لله ويُعرف المؤمن. وللمسجد صلةٌ وثيقةٌ بالإسلام؛ شريعةً وشعاراً.
يتناول هذا المقال مكانة المسجد في الإسلام، وثواب الحضور إليه والصلاة فيه، مضافاً إلى بعض الآداب التي على المسلم مراعاتها قبل التواجد فيه وأثناءه.
•المسجد قِبلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
لقد كان النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مميّزاً في حياته السلوكيّة، وأفعاله وعبادته، وقد احتلّ المسجد في حياته وعبادته حيّزاً كبيراً، فلم يصلِّ صلاةً واجبةً إلّا جماعةً في المسجد؛ ليبيّن لنا أهميّة هذه الصلاة. يقول تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (الأعراف: 29).
•ثواب الحضور إلى المسجد
إذا قصد المصلّي المسجد، عليه أوّلاً أن يعي ثواب ذلك؛ فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من مشى إلى مسجد من مساجد الله، فله بكلّ خطوة خطاها حتّى يرجع إلى منزله عشر حسنات، ومُحي عنه عشر سيّئات، ورُفع له عشر درجات"(1).
•آداب المسجد
ثمّة آداب وسنن على المسلم التقيّد بها قبل وأثناء حضوره في المسجد. وطالما كان قاصداً للثواب بحضوره المسجد، فإنّ ثوابه سيزيد إن هو راعى الآداب والسنن التي وردت في الكتاب الكريم، والسنّة المطهّرة.
1- آداب قبل الحضور إلى المسجد:
أ- المشي إلى المسجد: فقد روى أُبي بن كعب قال: كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فتوجّعنا له، فقلت له: يا فلان! لو أنّك اشتريت حماراً يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض! قال: أمَا والله! ما أحبّ أنّ بيتي مطنب(2) ببيت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فحملت به حملاً –أي حملت ما حدّث به- حتّى أتيت نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته، قال: فدعاه، فقال له مثل ذلك، وذكر له أنّه يرجو في أثره الأجر، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لك ما احتسبت"(3).
ب- الثياب النظيفة واللائقة: على المصلّي أن يتجمّل بأنظف ما عنده من الثياب، ويتطيّب بما لديه من الطيب، حتّى يظهر بمظهر لائق أمام روّاد المسجد ومن سيلتقي بهم فيه.
ج- عدم أكل الثوم والبصل: ففي المسجد لقاء، ومصافحة، ومعانقة بعضنا بعضاً؛ لذا كان من اللازم على المصلّي أن لا يأكل الثوم والبصل؛ لأنّ مثل هذه الروائح تنفّر المصلّي. ويلحق بالمنفّرات الدخان والروائح الكريهة التي تنبعث من الجسد أو الملابس.
د- المشي بخشوع: ينبغي المشي إلى الصلاة بخشوع وسكينة، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسَّكينة والوقار ولا تسرعوا، فما أدركتم فَصلُّوا، وما فاتكم فأَتِمُّوا"(4).
2- آداب الحضور في المسجد:
أ- التبكير في الحضور: يستحبّ التبكير إلى المساجد؛ لما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصفّ الأوّل ثمّ لم يجدوا إلّا أن يستهمّوا (يقترعوا) عليه لاستهمّوا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه..."(5).
ب- الدخول بالرِّجل اليمنى: على المصلّي عند دخوله للمسجد، أن يدخل برجله اليمنى، ويبدأ بالتسبيح، والتهليل، والصلاة على النبيّ وآله، ويجلس في المكان المخصّص للصلاة.
ج- صلاة ركعتين: ومن الآداب أنّه إذا دخل المسجد، فليصلِّ ركعتين، وهما تحيّة المسجد.
د- الدعاء عند الأذان وبعده: يسأل الله الوسيلة، فيقول ما جاء في حديث جابر الأنصاريّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهمَّ ربَّ هذه الدعوة التامّة، والصلاة القائمة، آتِ محمّداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مَقاماً محموداً الذي وَعَدْتَه، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة".
ه- الإكثار من ذكر الله: ويستحبّ الإكثار في المسجد من ذكر الله تعالى، بالتسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، وغيرها من الأذكار، وكذلك الإكثار من قراءة القرآن... عن الإمام الصادق عليه السلام: "عليكم بإتيان المساجد، فإنّها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهّراً طهّره الله من ذنوبه، وكُتب من زوّاره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء"(6).
و- تجنُّب اللغو واللغط: وعلينا أن نتجنّب اللغو واللغط، والخوض في أعراض الناس، وكثرة الحديث في أمور الدنيا، فذلك يقسّي القلب، ويبعد عن الله؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"(7).
ز- عدم البيع والشراء: وقد ورد النهي عن البيع والشراء في المسجد؛ لما روي من أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاعُ في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك"(8).
ح- المحافظة على الترتيب والنظافة: إذا جلب المصلّي قرآناً، أو سُبحة، أو تربة، فعليه بعد الاستعمال أن يُرجع كلّ شيء إلى مكانه المخصّص له. كما وعليه المحافظة على النظافة والترتيب داخل المسجد.
•آداب أخرى
أ- كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان إلّا لضرورة.
ب- عدم اتّخاذ المساجد طُرقاً؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تجعلوا المساجد طُرقاً حتّى تصلّوا فيها ركعتين"(9).
ج- المنع عمّا يعكّر صفاءَ المسجد، أو توجّه المصلّين، فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "جنّبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراركم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسلّ سيوفكم"(10). وأمّا جلب الأطفال إلى المساجد لتعويدهم على العبادة، ومراقبتهم فليس فيه منع، بل إنّه مستحسن، ومن أساسيّات التربية، والتعليم، والإرشاد الديني.
د- المحافظة على الهدوء، وعدم رفع الصوت في المسجد، وعدم التشويش على المصلِّين، ويدخل في التشويش على المصلّين ترك الهاتف الخليويّ مفتوحاً أثناء الصلاة.
هـ- أن لا يلزم المصلّي مكاناً واحداً في المسجد ليصلّي ويقرأ فيه القرآن الكريم، بل ليكن متنقّلاً دائماً، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "صلّوا من المساجد بقاعاً مختلفة، فإنّ كلّ بقعة تشهد للمصلّي عليها يوم القيامة"(11).
•آداب خاصّة بالنساء
إنّ دخول المرأة إلى المسجد شيء جيّد ومحبوب، وهذه سنّة قد سنّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمنه، فكانت النساء المسلمات يحضرن المسجد، والصلاة والجماعة، ولكن لا ينبغي التغافل في ذلك عن شروط لا بدّ من الالتزام بها:
أ- ألّا تتطيَّب المرأة أو تتزيَّن عند دخولها إلى المسجد وخروجها منه؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا شهدت إحداكنّ المسجد فلا تمسّ طيباً"(12).
ب- ألّا تدخل أو تمكث الجنب، والحائض، والنفساء، في المسجد؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ﴾ (النساء: 43).
•الحصن المنيع
عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستظرفاً، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو يترك ذنباً خشيةً أو حياءً"(13).
فمساجدنا كانت دائماً متاريسنا التي تحمينا من الشياطين، ولا تزال مدرسة وجامعة نتعلّم فيها الأخلاق، والقيم، والمبادئ التي تمنعنا من الانحراف عن الصراط القويم، فعلينا المواظبة والالتزام بحضورنا في مساجدنا؛ لأنّها حصانتنا من كلّ آفة.
1.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج5، ص201.
2.قوله: ما أحبّ أنّ بيتي مطنب ببيت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؛ أي ما أحبّ أنّه مشدود بالأطناب؛ وهي الحبال إلى بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بل أحبّ أن يكون بعيداً منه لتكثير ثوابي وخطاي إليه.
3.كنز العمال، المتقي الهندي، ج8، ص257.
4.(م.ن)، ج7، ص445.
5.الجامع الصغير، جلال الدين السيوطي، ج2، ص440.
6.العقائد الإسلامية، مركز المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ج4، ص292.
7.الأمالي، الصدوق، ص440.
8.زبدة البيان، الأردبيلي، ص413.
9.مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام، الجواد الكاظمي، ج1، ص190.
10.وسائل الشيعة، ج5، ص293.
11.(م.ن)، ج60، ص188.
12.ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1757.
13.الخصال، الصدوق، ص409، الحديث 10.