إن منشأ حضور القلب في أيّ عمل من الأعمال وسبب إقبال النفس عليه وتوجهها إليه أن يتلقى القلب ذلك العمل بالعظمة ويعدّه من المهمّات. وهذا وإن كان واضحاً ولكنه يكون أوضح بذكر مثال عليه: إذا أجاز لك السلطان الحضور في محفل أنسه العظيم وجعلك مورداً للتوجّه والتلطّف بحضرة الجميع فحيث إن هذا المقام عظيم في قلبك، ويتلقاه القلب بالعظمة والأهمية، فلهذا يحضر قلبك بتمامه في ذلك المحضر ويحافظ على جميع خصوصيات المجلس ومخاطبات السلطان وحركاته وسكناته. ويكون قلبك حاضراً في المحضر في جميع الأحوال ولا يغفل عنه ولو للحظة. وعلى خلاف ذلك إذا كان المخاطب غير مهمّ ويراه القلب تافهاً فلا يحصل لك حضور القلب في المكالمة معه وتكون غافلاً عن حالاته وأقواله.
* التساهل بالمحضر الربوبي
ومن هنا يُعلم السبب في عدم حضور قلوبنا في العبادات وغفلتنا عنها. فنحن لو أهمّتنا مناجاة الحق تعالى ومناجاة وليّ نعمنا بمقدار ما تهمّنا مكالمة مع مخلوق عادي ضعيف لما حصل لنا هذا القدر من النسيان والغفلة والسهو. ومن المعلوم جداً أنّ هذا التساهل والتسامح ناشئ من ضعف الإيمان بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وآله وبأخبار أهل بيت العصمة صلى الله عليه وآله، بل هذه المساهلة ناشئة من التساهل بالمحضر الربوبي ومقام القدس للحق تعالى. إن ولي النعم هو الذي دعانا إلى مناجاته وحضرته بلسان الأنبياء والأولياء، بل بقرآنه المقدس، وفتح لنا أبواب المكالمة والمناجاة معه. ومع هذا الوصف لا نلتزم أدب حضرته بقدر المذاكرة مع عبد ضعيف، بل كلّما شرعنا في الصلاة التي هي باب من أبواب محضره الربوبي وحضور جنابه فكأنّها فرصة لنا لنشتغل بالأفكار المشتتة والخواطر الشيطانية، فكأن الصلاة مفتاح الدكان أو الآلة الحاسبة أو أوراق الكتاب، فلا يحتسب هذا إلا من وهن الإيمان وضعف اليقين دون غيرهما. ولو علم الإنسان العواقب والمعايب لهذا التساهل وراح ينبّه القلب إلى ذلك فإنه سيكون في صدد الإصلاح لا محالة ويعالج نفسه بالتأكيد.
* تفكّر واعمل
إن الإنسان إذا لم يتلقَّ أمراً بأهمية العمل الذي يقوم به فسيؤدي الأمر به بالتدريج إلى تركه. وترك الأعمال الدينية يوصل الإنسان إلى ترك الدين. كما أنّ الإنسان إذا أفهم القلب أهمية العبادات والمناسك ينصرف من هذه الغفلة والتساهل وينتبه من هذا النوم الثقيل. فيا أيها العزيز، تفكّر قليلاً في حالاتك، وراجع أخبار أهل بيت العصمة صلى الله عليه وآله، وشمّر ذيل الهمّة عن ساقيك، وفهّم النفس بالتفكر والتدبّر أن هذه المناسك وخصوصاً الصلاة وبالأخص الفرائض منها سبب للسّعادة والحياة في عالم الآخرة، ومنبع الكمالات ورأس مال الحياة في تلك النشأة. وبحسب الروايات الكثيرة في الأبواب المتفرقة ومشاهدة أصحاب الكشف والعيان، فإن لكل من العبادات المقبولة صوراً غيبيةً بهيةً وتمثالاً ملكوتياً أخروياً يصاحب الإنسان ويرافقه في جميع النشآت الغيبية ويساعده في جميع الشدائد، بل الجنة الجسمانية في الحقيقة هي الصور الغيبية الملكوتية للأعمال. ومسألة تجسّم الأعمال من الأمور التي لا بدّ أن تعد من الواضحات. والعقل والنقل يتوافقان فيها. وتلك الصور الغيبيّة تابعة لحضور القلب وإقباله. والعبادة التي لا يؤتى بها بتوجّه من القلب وإقباله ساقطة عن درجة الاعتبار، وغير مقبولة لجناب الحق.
* شواهد من القرآن والسنّة
ونحن نكتفي في هذا المقام بآيات وقليل من الأحاديث تكفي الإنسان الخبير اليقظان. قال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ (الماعون 4 -5)، وقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ (المؤمنون1-2). ففاقد الخشوع في صلاته ليس من أهل الإيمان والفلاح. وتكفي لأهل التفكر والتدبر هاتان الآيتان، فالويل لمن قال الله تعالى في حقه "الويل له". وإن شيئاً يذكره العظيم المطلق بهذه العظمة والأهمية فمعلوم ما يتبعه من الظلمة والوحشة والنقمة.
وعن النبي صلى الله عليه وآله قال: "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (1). وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ من الصلاة لما يُقبل نصفها وثلثها وربعها وخمسها إلى العشر، وإنّ منها لما تُلفّ كما يُلفّ الثوب الخلق ويُضرب بها وجه صاحبها وليس لك من صلاتك إلا ما أقبلت عليه بقلبك" (2). وبهذا المضمون وردت روايات أخرى. وعن باقر العلوم عليه السلام قال: "قال صلى الله عليه وآله: إذا قام العبد المؤمن في صلاته نظر الله إليه أو قال: أقبل الله عليه حتى ينصرف وأظلّته الرحمة من فوق رأسه... يقول له: أيها المصلّي لو تعلم من ينظر إليك ومن تناجي ما التفتّ ولا زلت من موضعك أبداً" (3).
ويكفي لأهل المعرفة هذا الحديث الشريف. فما في إقبال الحق هذا إلى العبد من الكرامات والأنوار لا يعلمه غير الله ولا تستقيم له عقول البشر ولا يخطر على قلب أحد. وعن أبي الحسن الرضا عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه ولم يحزن صدره بما أعطي غيره" (4). وعن الإمام الصادق عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء89) قال: "القلب السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه"، وقال: "وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط. وإنّما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة" (5).
وعن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: "كان علي بن الحسين عليه السلام إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفضّ عرقاً" (6). وكان عليه السلام "إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلا ما حركت الريح منه"(7). وعن أبي حمزة الثمالي قال: "رأيت علي بن الحسين عليه السلام يصلي فسقط رداؤه عن منكبه فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته. قال: فسألته عن ذلك فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا تقبل منه صلاة إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه" (8).
* العبادة تمرين وتلقين
كان الشيخ العارف الكامل شاه آبادي روحي فداه يقول: "إن الإنسان في حال الذكر لا بدّ أن يكون كمن يمرّن الطفل على التكلم ويلقِّنه ليتكلّم. فكذلك على الإنسان أن يلقّن القلب الذكر. وما دام الإنسان ذاكراً باللسان ومشغولاً بتعليم القلب فالظاهر يساعد الباطن. فإذا انفتح لسان القلب فيساعد الباطن الظاهر كما أن تلقين الطفل أيضاً كذلك. فما دام الإنسان يلقّنه الكلام فهو يساعده. وإذا أجرى الطفل ذلك الكلام على لسانه فيدب في الإنسان نشاط يذهب بالتعب السابق. ففي البداية يساعده المعلّم وفي النهاية يأخذ المعلّم العون والمساعدة منه. وإذا واظب الإنسان في الصلاة والأذكار والأدعية على هذا الترتيب مدة فإنّ النفس تعتاده وتكون الأعمال العبادية كالأعمال العادية لا يحتاج لحضور القلب فيها إلى إعمال الروية، بل تكون مثل الأمور الطبيعية المعتادة".
(1) شرح أصول الكافي، المولى محمد صالح المازندراني، ج 8، ص 216.
(2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 79، ص 305.
(3) الكافي، الكليني، ج 3، ص 265.
(4) م. ن، ج 2، ص 16.
(5) م. ن.
(6) م. ن، ج3، ص 300.
(7) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 5، ص 474.
(8) علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 231.